أزمة جزر سليمان والمواجهة الغربية الصينية

حجم الخط

بقلم د. ناصيف حتي

 

وزير الخارجية اللبناني السابق

إذا كانت الحرب في أوكرانيا قد فجرت أزمة غربية روسية، فإن الاتفاق العسكري الذي وقعته الصين الشعبية مع جزر سليمان شكل صاعق التفجير لأزمة غربية صينية.
والجدير بالذكر أن جزر سليمان، في الطريق إلى هذا الاتفاق وربما كشرط ضروري لإنجازه، قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية كليا مع تايوان منذ ثلاث سنوات. الأمر الذي يفتح الباب أمام دول أخرى للقيام بذلك مقابل الحصول على «منافع صينية» قد تختلف بين دولة وأخرى. وللتذكير فإن تايوان تبقى إحدى أهم نقاط الخلاف الاستراتيجي الغربي الصيني المستقر ولا ندري إلى متى بين الطرفين...
في الحالة الأولى شكلت القارة القديمة، أوروبا، المسرح الاستراتيجي لهذه الحرب وللمواجهة المختلفة الأوجه بين الطرفين.
وفي الحالة الثانية شكلت «منطقة المحيطين»، الهندي والهادئ، مسرح المواجهة الدبلوماسية المتصاعدة، والمفتوحة على احتمالات عديدة، بين الطرفين الغربي والصيني. الخوف الأميركي الغربي وبالأخص من طرف حلفاء واشنطن في منطقة المحيطين يستند إلى أن الاتفاق، ولو لم يعلن عن ذلك، قد يشكل منطلقا لإقامة قاعدة عسكرية صينية في الجزيرة مع ما يحمله ذلك من رسالة لتلك القوى. ويرى البعض أنه قد يشكل أيضاً سابقة لتوجه الصين الشعبية لاحقا لإقامة اتفاق مع الجزر الأخرى وتحديدا فيجي وبابويا غينيا الجديدة. الأمر الذي تعتبره واشنطن وحلفاؤها بمثابة إسقاط لخط أحمر أساسي في ذلك المسرح الاستراتيجي من حيث ميزان القوة وبالتالي النفوذ، وكذلك استمرار تكريس الهيمنة الغربية في ذلك المسرح الاستراتيجي: «مسرح» تزداد أهميته مع الأيام في ظل تمدد الدور العالمي الناشط للصين الشعبية. والجدير بالذكر أن منطقة المحيطين تضم أكثر من نصف سكان العالم. وهي أيضاً تمثل ثلثي الاقتصاد العالمي وتحتضن قوى عسكرية أساسية في العالم.
القلق الغربي ينطلق من اشتداد التنافس في «لعبتي» الجغرافيا الاستراتيجية والجغرافيا الاقتصادية بين «الغرب» وحلفائه من جهة والصين الشعبية من جهة أخرى والتي تمد نفوذها بشكل سريع وقوي في منطقة المحيطين. تمدد يعتبر الأداة الأساسية في الاندفاعة الصينية للعب دور القوة العظمى الأخرى في العالم، إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية وأمام روسيا الاتحادية، عبر الاستراتيجية التي عنوانها طريق واحد حزام واحد...
واشنطن ترد بالتحرك عبر أطر عديدة في محاولة لاحتواء هذا الدور الصيني الناشط على الجبهات السياسية والعسكرية والاقتصادية. تقوم بذلك باستنهاض دور كافة الأطر التعاونية التي تربطها مع قوى أساسية في الإقليم، منطقة المحيطين، أو قوى دولية حليفة معنية بهذه المنطقة لما لهذه الأخيرة من تأثير مستقبلي على بنية النظام العالمي الذي يتشكل. واشنطن تتحرك على جبهات متعددة ومتقاطعة أولها كان مع أستراليا ونيوزيلندا، ثم في إطار ما يعرف بمجموعة «كواد» أو الحوار الأمني الرباعي الذي يضم إلى جانب الولايات المتحدة كل من الهند واليابان وأستراليا. ويجري الحديث عن ضرورة البدء بتعديل الاستراتيجية الدفاعية لهذه القوى في المنطقة على ضوء هذا المعطى الصيني الجديد. سيكون هذا الشهر، شهر دبلوماسية القمم الأميركية مع مختلف القوى في المنطقة، يبدأ باستضافة واشنطن لاجتماع مع رؤساء دول «رابطة جنوب شرقي آسيا» في 12 و13 من هذا الشهر. تليها زيارة الرئيس الأميركي لكوريا الجنوبية واليابان. كما أن على جدول دبلوماسية القمم الأميركية لقاء رباعيا مع كل من اليابان والهند وأستراليا.
يرى البعض أن الصين الشعبية استفادت من حيث التوقيت في «الغرق الأميركي الأوروبي» في الأزمة الأوكرانية والصدام مع روسيا لتنطلق في نشر وتعزيز موقعها ودورها في منطقة المحيطين. قد تكون الخطوة الصينية قد استفادت من لحظة الأزمة الغربية الروسية والأولوية التي تحتلها هذه الأزمة بتداعياتها التي تتخطى المسرح الاستراتيجي الأوروبي، رغم أهميته المركزية دوليا. ولكن هنالك واقع دولي جديد مختلف عن الواقع الذي استقر في قواعده وأنماطه بعد نهاية الحرب الباردة وقيام «لحظة الأحادية الأميركية» التي انتهت باعتراف واشنطن قبل غيرها من القوى الأخرى. فما يشهده العالم اليوم من توترات وتنافس في مناطق مختلفة وحرب في أوكرانيا تتخطى في مسبباتها وأهدافها الحدود الأوكرانية وأزمة مفتوحة مع الصين الشعبية حول جزر سليمان وتغير في دور الصين الشعبية على الصعيد العالمي يسقط، كما تقول واشنطن وحلفاؤها بعض الخطوط الحمر التي تبلورت في ظل وضع دولي نشأ غداة نهاية الحرب الباردة وتغير كليا. وهذه الخطوط الحمر والقواعد التي استقرت لفترة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وتداعيات ذلك على كافة الأصعدة، قد سقطت، مع العودة القوية لروسيا من جهة والدور الناشط دوليا للصين الشعبية من جهة أخرى...
كل من القوتين ترفض استقرار القواعد التي أقامها الطرف المنتصر، الغرب الاستراتيجي بقيادة واشنطن، في أوج انتصاره، لتنظم وتحكم نظاما عالميا ما زال في طور التشكل من حيث هيكل القوة (هل سيكون ثنائي القطبية أم ثلاثي الأقطاب) وكذلك طبيعة وقواعد «لعبة الأمم» التي ستستقر مع الوقت. وهذه هي الحال مع كل نظام عالمي جديد ينشأ على أنقاض نظام سقط. وقد يشهد الكثير من التوترات والأزمات والحروب المختلفة ليستقر النظام الجديد. والعالم اليوم يعيش عشية تبلور هذا النظام. ولا ندرى بعد التكلفة أو الوقت الذي سيأخذه قيام هذا النظام العالمي الجديد بهيكله وقواعده وأنماط علاقاته.