آتٍ الى السياسات الأميركية والروسية: استنفار الصراعات والمواجهة عالمياً

حجم الخط

بقلم راغدة درغام

تحت عنوان المواجهة والمزايدة والمكابرة، تجد الدول نفسها إما تتموضع في التكتلات التي تنشأ أو تلك التي تتوسّع وتتعمّق، وإما تبحث عن موقع خارج نظام التكتلات الصاعد، أو أنها ترقص على أصابع أقدامها تجنّباً لإزعاج قادة التكتلات الكبرى الخطيرة.

 

هذا ليس زمن مجموعة مثل "عدم الانحياز" بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كما كان الحال أثناء الحرب الباردة. إنه زمن التموضع من أجل المصالح الوطنية وليس حصراً لأسباب عقائدية.

 

ضغوط الدول الكبرى الناتجة من عزمها على إحراز النصر الاستراتيجي لنفسها أو إلحاق الفشل الاستراتيجي لعدّوها اليوم، إنما لها بالتأكيد وطأة كبيرة على قرارات الدول الخارجة عن تلقائية الانتماء الى كتلة هذه الدول وقيادتها، وفي المقدّمة الولايات المتحدة.

 

منطقة الشرق الأوسط بالذات اكتسبت مواقع صعبة ومميّزة في آن واحد، بعضها يُبحِر ببوصلة واضحة، وبعضها يُدرك أن العواصف ورياح الانتقام من لاتلقائية الانتماء تترصّد له.

 

إدارة بايدن تبدو واثقة من أن عقيدتها وسياساتها تحيك التاريخ وتحاكي الارتقاء الى عظمة نوعيّة في قيادة التكتلات الجديدة والقديمة لمواجهة الصين وروسيا، لكنها تواجه مقاومة بنيوية لحشدها العالمي لأنها في واقع الأمر تتخبّط بين العقائدية والارتجالية والمرجعية غير الواضحة لعلاقاتها الدولية وغاياتها العالمية.

 

روسيا اختارت رؤيتها وهويتها الوطنية في هذا المنعطف، وهي المواجهة واستنفار الصراعات من أجل احتواء حماسة تكتل حلف شمال الأطلسي العسكري (ناتو) ومشاريعه.

 

الصين سالكة في تعدّدية عضوية التكتّل الاقتصادي الذي تبنيه عبر سياسة "الحزام والطريق"، كما هي ماضية في توطيد علاقات استراتيجية ذات بعدٍ عسكري مع دول إقليمية رئيسية لها مثل إيران في الشرق الأوسط.

 

كوريا الشمالية تستفيد من انصباب إدارة بايدن على المسألة الأوكرانية والمواجهة مع روسيا، وهي تعزز علاقاتها مع تكتّل العداء للولايات المتحدة. تكتّل الأوكاس Aukus الذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا هو تحالف عسكري على مستوى نووي في منطقة الباسيفيك يستهدف الصين وكوريا الشمالية، في رأي البلدين، بالذات عبر غواصات مؤهلة نووياً.

 

والصين بصورة خاصة تنظر الى التحالف الثلاثي هذا باعتباره أحد أدوات تنفيذ ما يعتبره الرئيس الأميركي جو بايدن المعركة الحاسمة لهذا القرن بين الديموقراطية والأوتوقراطية.

 

الأسئلة البديهية هي الآن: هل، وكيف ستستطيع الولايات المتحدة ربح هذه المعركة على أساس نظام التكتلات الموزّعة في مختلف العالم وليس بناءً على معطيات جغرافية؟ هل سيؤدّي التورّط المباشر المحتمل لإدارة بايدن في الحرب الأوكرانية الى شَل الولايات المتحدة ومشاريع رئيسها؟ وكيف تتحرك إدارة بايدن بين ملفيّ إيران وأوكرانيا في إطار علاقاتها الإقليمية كما في إطار التحالفات التقليدية مثل ذلك الذي كان يضم الصين وإيران وروسيا والذي يحاول رجال بايدن اختراقه عبر الصفقة النووية الإيرانية؟

 

بات ضرورياً لرجال إدارة بايدن ونسائها الكف عن التبرير المُفتعل لعزمهم على الخضوع للشروط الإيرانية من أجل إحياء الاتفاقية النووية JCPOA في صفقة ستشمل إعادة تأهيل "الحرس الثوري الإيراني" الذي ينفّذ الاتفاقية الاستراتيجية مع الصين وتمويله، وتلك التي لا تزال واردة مع روسيا، كما يصمّم السياسات الإقليمية التوسعيّة ضد الدول الصديقة للولايات المتحدة بل والحليفة لها، تقليدياً.

 

فأولاً، كفى إلقاء اللوم على انسحاب الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاقية النووية مع إيران لكونه هو الذي أدّى الى تسريع وتيرة امتلاك طهران للقنبلة النووية. هذا ليس صحيحاً، بل وهو تبرير صبياني ينطلق من كراهية البايدنية للترامبية. لا نعرف ما إذا كانت سياسة الضغوط القصوى كانت ستؤدّي بإيران الى إصلاح عقيدتها وسياساتها النووية والتوسعيّة، وذلك لأن هذه السياسة لم تُستكمَل لأن دونالد ترامب خسر الانتخابات الرئاسية. ما نعرفه هو أن ضخ أموال إدارة بايدن في مؤسسة "الحرس الثوري الإيراني"، وذلك بخضوعها لإملاء طهران بحذفه من قائمة الإرهاب، سيؤدّي بالتأكيد الى امتلاكه أكثر فأكثر مفاتيح الحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإدارة أولوياتها، من تحوّلها الى دولة نووية الى تصدير نموذجها الى الدول العربية والقائم على ترسيخ الميليشيات التابعة لـ"الحرس الثوري" في دول سيادية تشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن.

 

فالرجاء من رجال بايدن المسؤولين عن الملف الإيراني، وفي طليعتهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن والمبعوث روبرت مالي، ألاّ يستصغروا عقولنا ويوهمونا بأن صفقتهم مع رجال مرشد الجمهورية من "الحرس الثوري" تأتي من أجل إنقاذ الشرق الأوسط والبشرية من القنبلة النووية الإيرانية. إنها صفقة مريبة لأسباب عديدة لا يتّسع لها هذا المقال. إنما هناك كلام يتردد في محافل دولية عدة قد يكون بلا أساس وقد يكون جدّيّاً رغم صعوبة تصديقه.

 

فهناك كلام عن رغبةٍ أميركية باستخدام أصدقاء "الحرس الثوري" الإيراني وأدواته للضغط على دول عربية تنظر اليها إدارة بايدن على أنها باتت تشكّل تحدّياً لها لأنها لا ترضخ تلقائياً لأوامرها وأولوياتها - النفطية منها، والروسية، والاستراتيجية عامة في إطار علاقات هذه الدول مع دولٍ كالصين. وما يتردد، على ذمة مصادر تراقب عن كثب العلاقة الأميركية - السعودية، هو أن إدارة بايدن ترى في الحوثيين أداة مفيدة لها للتعبير عن غيظها من السياسات السعودية، وهي لا تمانع هجمات حوثية فاعلة ضد السعودية بما يؤدّي الى دفع الرياض لطلب زيادة الحماية الأميركية لها.

 

وتضيف هذه المصادر، وعلى ذمّتها، أن الحوثيين سيتلقّون أسلحة فعّالة قريباً من "مكانٍ ما"، وتشير المصادر ذاتها الى أن إيران ستقول ان لا علاقة لها بما تتسلمه أو تقوم به الجماعات الحوثية، فيما تستمر المحادثات الأمنية السعودية - الإيرانية في العراق والتي عُقِدت الجولة الخامسة منها الأسبوع الماضي.

 

ثم أن طهران ستبتعد بصورة سطحية عن الاستفزازات الحوثية فيما تتظاهر بأنها تنفّذ وعدها لإدارة بايدن بعدم ممارسة نشاطاتها التخريبية التي تهدّد الاستقرار الإقليمي. قد تفعَل ذلك في أماكن أخرى، لكن تطوّر العلاقات الإيرانية - الإسرائيلية في سوريا ولبنان وعلى الصعيد المباشر سيكون محط امتحان للرئيس بايدن وإدارته والديموقراطيين، لا سيّما أن روسيا تودّ وتعمل على إشعال الجبهة الإيرانية - الإسرائيلية.

 

القيادة الروسية الغاضبة من استهتار القيادات الغربية بها وبما تقوله قرّرت أن المواجهة والأزمة الحرجة مفيدة لتنبيه الغرب ودفعه الى إعادة خلط أوراقه وإلى... الاستماع. أوكرانيا بالطبع المحطّة الأهم في المواجهة الروسية - الغربية، لكن موسكو ترى أن في الشرق الأوسط محطات مفيدة لزيادة التوتّر واندلاع الأزمات، وفي ذهنها الآن الساحة الإيرانية - الإسرائيلية.

 

فالكرملين لا يزال يثق بأن العلاقة الروسية - الإيرانية علاقة تحالفية استراتيجية مهما بدا لأيٍّ كان أن المعادلة النفطية ستقلب المقاييس أو أن الصفقة الأميركية - الإيرانية ستخلط الأوراق جذرياً واستراتيجياً. الكرملين واثق بأن الكتلة الثلاثية، أي الترويكا الصينية - الإيرانية - الروسية ستبقى قائمة، بل ستزداد تماسكاً، مهما حصل في الحرب الأوكرانية. والكرملين عازم على عدم خسارة الحرب لأنه ينوي التدمير التام والكامل لأوكرانيا ومشاريع "الناتو" فيها، بل ينوي المضي الى حرب عالمية ثالثة ونووية إذا تبيّن له أن الغرب بقيادة الرئيس جو بايدن قد اختار سحق نظيره الروسي فلاديمير بوتين عبر الاستراتيجية الأميركية الجديدة القائمة على الانتصار الاستراتيجي والفشل الاستراتيجي.

 

طهران تلعب لعبتها وتحتفظ بكل الأوراق، ولذلك تبلّغ إسرائيل عبر "الحرس الثوري" أن لديها الخرائط المفصّلة لكل المنشآت الإسرائيلية الحيوية، وأن تدميرها ليس سوى مسألة تكتيكية لأن لدى جنرالات إيران الضوء الأخضر من القيادة العليا، وبالتالي أن إيران جاهزة تكتيكياً. وفي رأي جنرالات إيران أن استمرار الحرب الأوكرانية يطلق يد الجمهورية الإسلامية لأن الولايات المتحدة لن تتمكن من مساعدة إسرائيل بسبب انغماس إدارة بايدن في أوكرانيا واستثمارها نفسها فيها كليّاً. وفي رأي موسكو، إن "حماس" وأمثالها من الراديكاليين يشكّلون مزيجاً جيداً مع إيران، إذا اتُخِذَ قرار تفعيل مواجهة إيرانية - إسرائيلية.

 

أما في ذهن إدارة بايدن، فإن الصفقة النووية مع إيران تساعد رجال بايدن في إقناع رجال مرشد الجمهورية علي خامنئي بعدم استفزاز إسرائيل أو المواجهة معها - وهكذا يقدّمون الصفقة النووية بأنها في المصلحة الإسرائيلية لحمايتها من الهجمات الإيرانية.

 

قد تكون المسألة مجرد محطات كما تقتضيها التطورات في المفاوضات النووية في فيينا، وقد تدخل المسألة في الحسابات النفطية كما في حسابات روسيا لإحراج إدارة بايدن عبر البوابة الإسرائيلية إذا ما تركها وحدها في المواجهة مع إيران.

 

فالجبهة الإيرانية - الإسرائيلية ستبقى باردة أو تصبح ساخنة على وقع تطور العلاقات الأميركية - الروسية والتي لا ظلال تحسّن عليها في هذه المرحلة. المقايضات والمساومات في أوجّها بين دول العالم، كما الاستعدادات للتموضع حالما يتضح جزء من المستقبل الآتي.

 

الصين تتحرّك بمصالحها وتتهيّأ لتنفيذ مشاريعها من تايوان الى منطقة المحيط الهادئ برمتها. رئيس كوريا الشمالية زاد الطين بلّة بقوله أخيراً إن الحاجة الى السلاح النووي ليست محصورة فقط بالدفاع - وهذا بحد ذاته مرعب حقاً. الشرق الأوسط يبدو ظاهرياً أكثر أماناً من أوروبا الواقفة على شفير الحرب العالمية الثالثة، لكنه منطقة التفجير عبر قرارات الآخرين. الولايات المتحدة قرّرت عبر رئيسها أن تقفز بكامل وزنها في الحرب الأوكرانية التي باتت ساحة الحرب الأميركية مع روسيا بالنيابة.

 

والآن، استعدوا للنطق بكلمة وبحرب في ترانسنيستريا Transnistria الواقعة في أراضي مولدوفا إنما تحت السيطرة الروسية حيث خزّنت فيها موسكو مئات آلاف القطع من الأسلحة السوفياتية التي تريد أوكرانيا اليوم استخدامها في حرب روسيا عليها. فالقصة طويلة وحكايات التموضع الاستراتيجي حقاً معقدة.