أثار المقال السابق حول التنمّر الأوروبي على فلسطين بعض الآراء المهمة، والانتقادات المحقّة بقدر ما يتعلق الأمر بالمحتوى الوطني الخاص بهذه المناهج، بالمفهومين الواسع والضيّق، وبصرف النظر ـ أحياناً ـ عن الزاوية، أو الزوايا التي أثارتها أوروبا، أو بعض دولها على الأقل.
وفي الوقت الذي أشاطرهم الرأي بأنّ ثمة علاقة سببية ما بين المحتوى الوطني الخاص لهذه المناهج، بمفهوميه، الضيّق والواسع، وما بين بعض «المطالبات» الأوروبية بالتعديل عليها، أو تغييرها، إلّا أنني لا أتّفق مع بعض هذه الآراء والانتقادات في رؤية زاوية هذه العلاقة السببيّة، بل إنني في الواقع لا أرى مثل هذه العلاقة إلّا من زاوية مختلفة، أو حتى معاكسة.
فلو عدنا إلى جوهر ومضمون «الانتقادات» الأوروبية للمناهج الفلسطينية للاحظنا بوضوحٍ تام أن هذه الانتقادات لا تمتّ، لا من قريبٍ أو بعيد بأيّ صلةٍ بكل مظاهر القصور، أو النواقص، أو حتى بأيّ صلةٍ تتعلق بجوهر المفاهيم والثقافة الإنسانية أو قيمها الحقيقية.
الملاحظات والانتقادات الأوروبية للمناهج الفلسطينية لا تنتقد وليس لديها مشكلة مع هذه المناهج، فيما إذا كانت مناهج «متخلّفة» عن مناهج التعليم المتقدّم في بعض أو معظم البلدان المتطوّرة، وليس لدى الأوروبيين مشكلة مع الطابع التلقيني لمناهج التعليم الفلسطينية، ولا مع بعض المظاهر الطاغية في هذه المناهج لجهة «الأصولية» على حساب التأصيلية، وليس لدى الأوروبيين ما يعترضون عليه لجهة «إقحام» الكثير الكثير من «النصوص الدينية» الزائدة، وبصورةٍ مبالغ بها عن قصدية ـ لا لزوم لها ـ (لإثبات وتثبيت) مرجعية «شرعية» لكل شيء تقريباً، وكأنّ هذا الإثبات (العلمي والمنطقي) للظواهر الطبيعية والاجتماعية، وتلك التي تتعلق بالفكر والثقافة البشرية لا تصبح صحيحة، أو ليست «مضمونة» الصحة إلّا بالاستناد إلى المرجعية الشرعية.
لا توجد انتقادات أوروبية للمناهج الفلسطينية من هذه الزوايا على الإطلاق، وليس للأوروبيين أيّ مطالبات خاصة فيما يتعلق «بتبجيل» ما يُطلق عليه بـ»السلف الصالح»، مع أن عاقلاً في أيامنا لم يعد بمقدوره إنكار الكثير من الحقائق والوقائع التي ترفع عن بعض هذا «السلف» غطاء «القدسية» التامّة، وأصبح ممكناً ومتاحاً الاستناد إلى العلوم التاريخية التي تزودنا بالمعطيات الكافية والحاسمة حيال هذه «القدسية» أو الهالة التي تحيط بهذا السلف في المناهج الفلسطينية والعربية، أيضاً، وبكثيرٍ من الشططِ أحياناً في بعض البلدان الإسلامية.
والحقيقة أن الأجيال الجديدة بالتواصل والتتابع لم تفهم إلى يومنا هذا، ولم تجد في المناهج العربية والإسلامية ومن ضمنها الفلسطينية ما يُقنعها حول حقيقة الحروب بين التيارات الفكرية داخل المرجعية الإسلامية نفسها، بالرغم من أن هذه الحروب أدت من بين ما أدت إليه إلى إزهاق أرواح مئات الآلاف من المسلمين في حروبٍ بلغت أعلى درجات العنف والانتقام والتصفيات المتبادلة. وهي لا تفهم (الأجيال) كيف أننا نتغنّى بعباقرة الأمة وأفذاذها ـ وهم فعلاً من العباقرة والأفذاذ ـ في حين أننا نخفي عن هذه الأجيال اتهامنا لهم بالزندقة والإلحاد، أو الخروج عن الشريعة والدين، ونتستّر على حرق كتبهم وملاحقتهم، وقتلهم.
حتى أننا لا نمتلك شجاعة الإفصاح عن ماهية الدولة الإسلامية منذ العهد الراشدي وحتى سقوط الخلافة العثمانية، وفيما إذا كانت هذه الدولة هي دولة دينية فعلاً أم أنها دولة سياسية ومدنية كانت تتستّر وتستثمر في الدين، كما هو واقع الدولة العربية والإسلامية الحديثة؟
على الأقلّ في المجال الثقافي والسياسي والاجتماعي فإنّ المناهج الفلسطينية شأنها في ذلك شأن معظم المناهج العربية والإسلامية هي مناهج قائمة على عقلية النص والنقل بعد أن تمّ طرد منهاج الاجتهاد والعقل وتهميش دورهما، وتنحية أولويتهما في مناهج التربية والتعليم.
وعندما تصبح «المسلّمات» هي قاعدة التفكير، وعندما تتضخّم هذه المسلّمات لتتحول إلى كل شأن تفصيلي من تفاصيل الحياة اليومية نكون نحن في الواقع، وبصرف النظر عن النوايا، أكانت قصدية أو ارتجالية، قد حكمنا على هذه الأجيال بالانفصال عن مناهج التفكير العلمي، وحشرنا تفكير هذه الأجيال في منظومات فكرية وثقافية قرو ـ أوسطية، لم تصل بعد إلى مشارف عصور النهضة، أو نعمل بوعي أو من دونه على تعليم أجيالنا وحشو أدمغتهم بالجبريات والمسلّمات والقَدَريات التي تحول منطق التفكير العلمي نفسه إلى شأن ثانوي ومحاصر ومحصور.
لا شكّ بأن سيطرة «الإسلام السياسي» على مناهج التعليم في الأردن، ثم في فلسطين، وفي مصر، أيضاً، من خلال مؤسسة الأزهر قد أثّرت بصورة كبيرة على مناهج التعليم، وحوّلت هذه المناهج إلى منصّات إعلامية وثقافية للفكر الوهّابي المتطرّف منذ منتصف القرن الماضي.
إلّا أن فلسطين بالذات ما كان لها أن تبقى في هذه الدائرة مطلقاً، وكان بمستطاعها أن تتحرّر من هذه القيود، وهنا بالذات أتفق تمام الاتفاق مع الانتقادات والآراء التي تناولت هذا البعد أو ما ماثله من الأبعاد والاعتبارات في تناول البعد الوطني الأعمق للمناهج الفلسطينية.
أوروبا ليست معنية بكل هذا، وما يهمها حصرياً هو الحقوق «اليهودية» والإسرائيلية، المؤسسة على الرواية التوراتية، والتي تعتبر هذه الحقوق ثابتة ومستقرة، بل إن الحقوق الفلسطينية ليست ثابتة ولا مستقرة، ولا تستمد «شرعيتها» إلّا بقدر ما «تخضع» المناهج الفلسطينية لهذه المعيارية بالذات.
وإذا كانت أوروبا حريصة فعلاً على القيم الإنسانية بما فيها قيم التسامح وثقافة التعايش وقبول الآخر، والاعتراف بهذا الآخر، فعلى أوروبا أن تخجل من نفسها أولاً، لأنها تخضع لهذا الابتزاز الصهيوني الذي بادرت إليه منظمة «إيباك» الصهيونية المتطرفة في الولايات المتحدة قبل عدة سنوات، ولم تكلف أوروبا خاطرها بمراجعة المناهج الإسرائيلية، وهي تعرف أن التعليم الرسمي في إسرائيل يهلّل ويطبّل لعشرات من القادة الإسرائيليين الذين أشرفوا وشاركوا وباركوا وساهموا في مجازر ذهب ضحيتها آلاف مؤلّفة من المدنيين الفلسطينيين.
وإذا كانت أوروبا فعلاً مهتمة بمسألة المناهج على الجانبين فهيّا لعقد مؤتمر دولي بمشاركة أوروبا، علمي وتاريخي، محايد ويبحث عن الحقيقة، وليس عن «تنبيشات» هامشية يوجد فيها على الجانب الآخر من معادلة المناهج أطنان متراكمة من نفي الآخر وإقصائه وتجريده من أرضه وحقوقه وثرواته وروايته وتاريخه وثقافته.
في كل الأحوال، وبأمل أن تتمكن الجهات الرسمية الأوروبية من أن تختار البحث الجادّ والمسؤول سنعمل من جهتنا مع كل قوى الحرية والديمقراطية والسلام والتقدم الاجتماعي في أوروبا لفضح هذا المخطط، ولتعرية القائمين عليه، والخاضعين لابتزازات أصحابه.