منذ أن انتظم بنو البشر في مجتمعات إنسانية وهم يعيشون تحت تأثير عاملين، شكّلا معاً ما يشبه المتلازمة: المأساة والأمل.
المأساة التي تجلت في واقع البؤس؛ حيث عاش أغلب الناس في فقر وعوز ومعاناة، وكابدوا الظلم والتسلط والطغيان.. وما كان يبقيهم على قيد الحياة، تعلقهم ببصيصٍ من الأمل.
أسباب معاناتهم كثيرة: الاستبداد، الحروب، الفساد، الكوارث، التخلف.. أما أشكال الأمل فتطورت من إيمانهم بالسحر، إلى الأديان، إلى الأحزاب، إلى برامج التنمية والخطط الخمسية.. وجميعها تلخصها فكرة الخلاص والبحث عن منقذ أو مَخرَج.
وقد تمحورت حول فكرة انتظار المخلّص: المسيا، أو المهدي المنتظر، ثم تطورت إلى انتظار الزعيم الوطني، أو القائد التاريخي، أو الحاكم العادل، أو الجنرال العسكري.. حتى لو كان هذا المنقذ مات منذ مئات السنين!
وعلى مدى الأزمان، ولغاية هذه اللحظة يدرك السياسيون والحزبيون والإعلاميون ورجال الدين هذه الحقيقة، أي حاجة الناس للأمل، فاستخدم أغلبهم هذه الحاجة الإنسانية الملحّة كبضاعة.. فقاموا بتسويق الأوهام وبيعها للناس بأبخس الأثمان، مقابل الحصول على سكوتهم، أو تأييدهم، أو أصواتهم كناخبين، أو حتى الحصول على الإعجابات واللايكات.
وهكذا، تحول بثُّ الأمل إلى بيعٍ للأوهام.. صدقناهم عشرات المرات، وفي كل مرة يتم خداعنا، نُصاب بخيبة أمل، ونعيش بعدها بانتظار «وهم» جديد، فنصدقه مجدداً!
منذ ألف سنة ونحن نعيش حالة غير عادية من البؤس، والتخلف والتشرذم.. آخر مرة انتصرنا فيها كانت في موقعة عين جالوت، حين هَزم المماليك فلول المغول.. وفي طريق عودتهم من المعركة قتل الخليفة «الظاهر بيبرس» قائد الجيش «قطز».. أما المغول فعادوا وحكموا المنطقة، ولكن هذه المرة باسم الدين.
منذ ألف سنة، ونحن نمنّي النفس بالنصر، ونحلم بالتقدم، والرخاء والعدالة الاجتماعية.. فيما واقعنا يزداد بؤساً، ونتلقى الضربات تلو الضربات، وقد أحصينا عدداً مهولاً من الهزائم.
في عصرنا الراهن، انتظرنا النصر المظفر من عبد الناصر، فتلقينا هزيمة حزيران.. وانتظرناه من صدام حسين، فضاعت العراق كلها، ومن بعدها انفرط ما تبقى من عقد العروبة.. تأملنا بأن حزبنا القومي الذي راهنّا عليه إذا ما استلم السلطة، سيحقق الوحدة العربية، وسيجر جيوش التحرير.. فتكرس واقع التجزئة، وعمَّ الاستبداد.. وصدقنا حزبنا الإسلامي حين قال «الإسلام هو الحل»، فتبيّنَ أن كل همه الفوز في الانتخابات، وفرض الحجاب على النساء.
صدقنا قادة «المقاومة»، وهم يهددون بزلزلة الأرض تحت أقدام الاحتلال، فجلبوا لنا في آخر عشرين سنة ست حروب مدمرة، أهدينا العدو من خلالها انتصارات مجانية، ولم نجنِ منها سوى الموت، وخراب البيوت.. مع أنهم اعتبروها انتصارات ربانية مجلجلة!
منذ أزيد من سبعين سنة، ونحن نعيش نكبةً متواصلة، تحت بساطير الاحتلال الإسرائيلي.. ونحلم بالعودة والتحرير.. من منا لا يتمنى أن يصحو فيجد الاحتلال قد زال؟ في هذه السنين السبعين سمعنا كثيراً عن وعود التحرير.. مشكلتنا أننا أردنا النصر على طبق من فضة، أردناه جاهزا مقشّراً.. فراهنّا على شجر الغردق، وعلى عودة صلاح الدين، وعلى قدوم الخليفة الموعود، وعلى الزعيم المفدى، وعلى الجيوش العربية، وعلى وعود الأحزاب وقادتها الملهمين.
طبعاً، لا ينطبق هذا الكلام على الجماهير المناضلة والمكافحة، التي ضحت بدمها وعرقها، وبذلت جهدها، وقدمت الشهداء والجرحى والأسرى والعلماء والمبدعين... الحديث عن الجماهير المخدرة بالوعود.
قبل سنوات تنبأ أحد المشايخ بزوال إسرائيل من الوجود في العام 2022.. المشكلة ليست في الشيخ ونبوءته.. وليست في صحة أو خطأ الحسابات.. مشكلتنا في الملايين الذين صدقوه، مشكلتنا في طريقة تفكيرنا التي ما زالت تعتمد على الخرافة، وعلى التفكير بالتمنيات، والتحليل الرغائبي.. وفي تصديقنا للشعارات الرنانة، والخطابات الشعبوية..
وقبل سنة تقريباً تحدث أحد قادة المقاومة وبشيء من الغموض عن الرقم 1111، حينها تفاءل الأسرى، وفرح أهاليهم، فإذا بالرقم دلالة على عدد الصواريخ التي سيطلقها إذا اعتدت إسرائيل على الأقصى!! المشكلة هنا ليست في كشف سر عسكري يتعلق بقدرات المقاومة، ولا بلغة التهديد الأجوف، ولا بكفاءة الصواريخ من عدمها.. المشكلة أنّ الأقصى محتل منذ 56 عاماً.. واستباحته بأقدام المستوطنين وبساطير الجنود تتم بشكل يومي.
كما اعتاد بعض قادة المقاومة، وقد تعلموا من معلمهم الأكبر (إيران) على إطلاق تهديدات نارية في حال أقدمت إسرائيل على اغتيال شخصية قيادية، أو ارتكاب أي جريمة احتلالية أخرى.. بأنهم سيحرقون الأرض تحت أقدام الغزاة، ووو.. والمشكلة هنا أيضاً ليست في نبرة التهديد التي يستخدمها العدو لتكريس مظلوميته، فترتد علينا.. المشكلة أن فلسطين محتلة منذ سبعة عقود ونيف، وأنّ المقاومة وُجدت أساساً للتحرير، كمبادرة وفعل متواصل وخلاّق. وليست مجرد ردود أفعال مؤقتة ومحدودة ضد جرائم معينة، مهما كان حجمها، فالجريمة الأساسية والكبرى في الاحتلال ذاته، حتى لو بقي مستكينا ومسالما.. وصار صديقا للبيئة.
بثُّ الأمل يختلف كلياً عن بيع الأوهام.. بثّ الأمل شيء إيجابي وأساسي ومطلوب، ويعني تبني سياسات طموحة وشجاعة، ولكن ببرامج عمل واقعية، وشعارات عقلانية، واتباع أساليب مقاومة تتناسب مع قدرات الشعب، وطبيعة المرحلة.. والإيمان بأن المعركة معركة الشعب بأسره، وعلى كل الشرائح والفئات الاجتماعية الانخراط في المقاومة.. وهذا ينطبق أيضاً على مشاريع التطوير والتنمية والنهوض الحضاري والتقدم بكل أشكاله، أي بجملة واحدة: الاعتماد على الجماهير وطاقاتها الخلاقة.
أما بيع الأوهام، فهو انتظار التغيير من القائد الأعلى، أو من الرئيس، أو من أي جهة خارجية، أو المراهنة على الغيب، وتصديق الخرافات.. أي بجملة واحدة: التفكير بالتمني وانتظار الفرج.
بيع الأوهام ليس لضمان التأييد، أو لحصد الإعجابات وأصوات الناخبين وزيادة أعداد المريدين وحسب، الأخطر من ذلك أنها مسكّنات، وهذه المسكنات روضت عقول وقلوب الملايين، وجعلتهم يرضون بالذل والهوان، ويقبلون بالظلم والتسلط، لأنهم ينتظرون النصر والفرج والتغيير دون أن يفعلوا شيئاً سوى الدعاء، والشعور بالنشوة الزائفة كلما داعبت عواطفهم بعض الشعارات الرنانة، والخطابات الشعبوية.