اليهود ليسوا متشابهين، وليسوا ذوي طبيعة واحدة - وهذا ما قرره رب العالمين وهذا ما نؤمن به، وهذا موقف يتعالى ويتسامى على أية نظرة عنصرية أو عرقية أو دينية - وهذه الحقيقة تنبني عليها حقيقة أخرى هي أن اليهود ليسوا جماعة عرقية أيضاً - وهذا ما قررته علوم إنسانية كثيرة - وإنما هم جماعة ثقافية تحولت بفعل عوامل تاريخية إلى جماعة وظيفية في المجتمعات التي عاشت ضمنها أو بين ظهرانيها. وبالتالي فإن هذه الجماعة الوظيفية (الهامشية عادة) ستقوم بأدوار اجتماعية وسياسية وثقافية قد تتميز بالغرابة أو الجرأة أو الاستهجان، وسيناط بهذه المجموعة أدوار قد لا يقوى المجتمع نفسه على القيام بها بسبب قوة التقاليد وسطوة العُرف، ومن هنا، فإن تميز اليهود - الصحيح أو المدّعى - له ما يبرره من ناحيتين : الثقافة الخاصة والتاريخ الخاص.
وخلال أو ضمن هذين المرتكزين يمكن لنا أن نتفهم المسألة، دون أن نغرق بعنصرية كريهة تعتقد أن لليهودي جوهراً واحداً أو طبيعة متماثلة أو أن نلوذ بتفسيرات اختزالية تعمي عيوننا عن الحقائق الساطعة.
الكلام هنا لا يتناول اليهودي من حيث كونه إنساناً حراً قادراً على التمييز واتخاذ القرار وأنه متساوٍ في إنسانيته مع الآخرين، ولكن الكلام سيتناول ثقافة اليهود التي صيغت خلال عهود طويلة من الانطواء والانعزال والأدوار الاجتماعية والسياسية المشبوهة - وهذا ليس رأينا بل هو رأي كثير من المؤرخين المشهورين - .
وليس ذنبنا أن اختارت الجماعات اليهودية الانطواء، وليس من عقدة أخلاقية تعترينا إذا رأينا أن الجماعات اليهودية المختلفة لعبت وما تزال تلعب أدواراً سياسية واجتماعية واقتصادية مشبوهة في بقاع مختلفة من العالم.
هذا دور تميزت به الجماعات اليهودية، ولهذا كانت بحق جماعات وظيفية داخل مجتمعات متماثلة أو غير ذلك، وإنها استفادت من ذلك استفادة كبرى ، استطاعت من خلالها أن تتحوّل إلى جماعات قوية ذات تأثير كبير.
مرة أخرى يجب التأكيد على أننا لا نتكلم عن إنسانية اليهودي الكاملة، وإنه ليس خاصاً أبداً أو متميزاً أبداً، إنه مجرد إنسان عادي ليس له فضل على التاريخ أو الإنسانية يتساوى في ذلك مع كل إنسان على هذه الكرة الأرضية، إلا بما قدّم أو أبدع.
نحن نتكلم عن ثقافة اليهود، تلك الثقافة التي ولدت من رحم العذاب وتواصلت في رحلة عذاب وأثمرت في لحظات العذاب (تجب الإشارة إلى أن القرآن الكريم تحدث عن عذاب بني إسرائيل في مصر، وعذابهم في سيناء، ثم تواصل مسلسل العذاب في مختلف المحطات الرئيسة للجماعات اليهودية، وهذا تصديق لوعد الله في (سورة آل عمران) ومرة أخرى، فالإشارة هنا إلى مواقف الجماعات اليهودية وليست إلى إنسانيتهم، والقرآن الكريم يفرّق تماماً بين الأمرين، وهذا ما يجب التنبيه إليه في كل مرة يذكر فيها ذلك). ثقافة اليهود أو لنقل ثقافة الجماعات اليهودية (ذلك أن هناك جماعات تقدمت على جماعات أو اختلفت معها في الأصول وفي الفروع أو أن بعضها طوّر نوعاً من الأطروحات التي تفترق عن أطروحات أخرى، حتى التوراة فيها اختلاف، وكذلك التلمود في وضعه وفي نصّه وفي شروحه وفي طبعاته) هذه الثقافة التي هي أساس كل إنسان - الإنسان أولاً وأخيراً وعْيه وليس ظرفه، إرادته وليس بيئته، قراره وليس الضغوط حوله - هذه الثقافة تميزت بالآتي (تقل أو تزيد حسب الظروف التاريخية):
* تأكيد التميّز والتفرّد والخصوصية، وهذا ما يطول الكلام فيه وإيراد الأمثلة الدامغة عليه.
* احتكار الإله وتحويله إلى رب قبائلي "في التلمود وصف للإله على هذا النحو : يكون الإله مشغولاً خلال اثنتي عشرة ساعة يومياً : يقرأ التوراة في الساعات الثلاث الأولى، ويحكم العالم في الساعات الثلاث التالية، ويفكر في إفناء العالم، ثم يترك كرسي القضاء إلى كرسي الرحمة، ويجلس في الساعات الثلاث التي بعدها يرزق العالم كله من أكبر الحيوانات إلى أصغرها، وفي الثلاث ساعات التالية يلعب مع التنين أو الحوت، والإله، في التلمود (حسب ما ذكره الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه اليد الخفية) متعصب بشكل كامل لشعبه المختار، ولهذا فهو يعبّر عن ندمه على تركه اليهود في حالة تعاسة وشقاء حتى أنه يلطم ويبكي، ومنذ أن أمر بهدم الهيكل وهو في حالة حزن وندم، وتوقف عن اللعب مع التنّين الذي كان يسلّيه، ويمضي وقتاً طويلاً من الليل يزأر كالأسد، ولكنه في آخر الأيام بعد إقامة المجتمع اليهودي الأمثل في العصر المشيحاني (نسبة إلى المشيح)، في ظل الدولة المستعادة، يجلس على العرش يقهقه لانتصار شعبه".
* اعتمادهم الفكر الحلولي الذي يجعل من المسافة بين الله والإنسان معدومة، ونفي أن يكون التاريخ هو المحك البشري للإرادة، بل تنزع الثقافة اليهودية الدينية إلى جعل الله والإنسان شيئاً واحداً، وتفترض الحلول الدائم للإله في الطبيعة والتاريخ، بحيث تبهت فكرة الألوهية تماماً وتقل هيبتها وتتحول من فكرة خلاقة الحركة ومبدعة إلى صفة عضوية لجماعة بعينها . (لا بد من ملاحظة تقديس الجماعات اليهودية لأحبارها، ومن ثم الطلب من الجماعات الأخرى تقديس جماعة اليهود بأسرها).
* اختزال التاريخ واختزال الرواية، فالثقافة اليهودية تنزع إلى تبسيط التاريخ تبسيطاً مضحكاً وتنزع إلى تقسيم البشر تقسيماً يثير الرثاء، ومعنى هذا أن التاريخ ذو صيرورة تخدم اليهود وأن الأمم في خدمتهم ، وأن الخلاص سيأتي على يد (المشيح) وسيملأ الدنيا عدلاً بعد القضاء على أعداء اليهود. الاختزالية في ثقافة اليهود كانت نتيجة محتومة لفكرة التفرد والتميز.
* إن جماعة اليهود هي الجماعة الوحيدة القادرة على حفظ توازن هذا الكون من طرفية المادي والروحي وإنهم يشكّلون (لسبب ما) الطاقة الروحية لهذا العالم، وإنهم أصحاب رسالة كونية لا يحملها شعب آخر أو أمّة أخرى.( لاحظوا العنصرية )
* إن تاريخهم مميز، أو أنهم خارج أحداث التاريخ، وإن تاريخهم جزء من عقاب إلهي أو إرادة إلهية عليهم تحمّلها حتى تأتي لحظة الخلاص (وهذه نظرة وجدت مَن يدعمها مِن خارج الجماعات اليهودية، بحيث جعلت من اليهود جوهراً واحداً ينتظمها حكم واحد).
* إن اليهودي ذكي يصل إلى حدود العبقرية، ويتجاوزها، وأنه مفرط الحساسية، مفرط التيقّظ، يميل بطبعه إلى الأعمال النخبوية والتي تتطلب استعدادات روحية خاصة -وهناك من يفسّر سبب ميْل اليهود إلى الزراعة والأعمال اليدوية لهذا السبب، وليس هناك من سبب أيضاً لنقض ذلك أو تفسيره، فالجماعات الوظيفية الهامشية تتصرف بعقلية السائح أو المهاجر-.
* الصهيونية، وهي حركة علمانية في ظاهرها، قومية في سطحها، ترتكز فعلياً على الثقافة اليهودية رغم كل ما يمكن أن يقال في هذا الشأن، وعلى الرغم من كل ما يمكن أن يساق من شواهد تاريخية على أن الصهيونية جزء من حركة قومية عالمية استيقظت في أوروبا أبان عهود الإمبريالية الأولى، إلا أن الصهيونية - في نظرة حق وتفحص - لا يمكن فصلها أبداً عن تلك الثقافة اليهودية التي أوغلت في البحث عن التفرد والانعزال والألوهية، وما شعار (دولة إسرائيل دولة يهودية ديموقراطية) سوى الوجه السياسي لذلك الشعار الديني الذي رفعه عزرا الكاهن ذات يوم، وهذا ليس من عندنا بل هو من سفر عزرا نفسه.
والصهيونية ورغم الوعاء العلماني الذي اختارته - لترضي الطرح القومي الأوروبي ربما - حاولت تقديم وسط حسابي لكل الجماعات اليهودية في العالم من حيث التأكيد على الرموز اليهودية الضاربة في أعمق أعماق الثقافة اليهودية، وللحقيقة فلا مضمون للصهيونية دون اليهودية، فعندما بحثت الصهيونية عن (شعبها) وجدته في جماعات اليهود ليس إلا . وفي هذا إثبات تاريخي وثقافي وسيكولوجي على أن الصهيونية ستختار فلسطين وليس أوغندا ولا ينبغي لها، ونعتقد أن ما يشاع عن ذلك مجرد نكتة سخيفة ليس إلا.
إن ثقافةً هذه ميزاتها ستقود حتماً إلى الاصطدام مع الآخرين، وستقود حتماً إلى التوجّس والحذر والتشكك، وستقود حتماً إلى الأزمات المتوالية، وهو ما حصل فعلاً .
وبالنظر إلى ما قاله الدكتور أسامة الباز( مقالات في جريدة الأهرام) في "اعتبار أن الإنسان ابن بيئته " فإن ذلك لا يكفي أبداً لفهم تصرف وسلوك جماعات اليهود في أماكن تواجدها، وعليه لا يمكن لنا أن ندرس كل جماعة يهودية دون النظر أو اعتبار المحركات الوجدانية والروحية التي تعمل في الخفاء لرصد سلوك تلك الجماعات وتوجهاتها العلنية والسرية.
أوروبا والجماعات اليهودية
لماذا لا يقال بوضوح وصراحة وجرأة أن المسيحية الغربية وجدت جذرها في اليهودية، حتى الثورة التنويرية التي أحيت الجذر الروماني والإغريقي للحضارة الغربية لم تستطع أن تتجاوز ذلك الجذر اليهودي، وعليه فإن الغرب المسيحي (وهو يختلف كل الاختلاف عن الشرق المسيحي) وفي محاولة تأصيل تجربته العلمية والعلمانية أزّم علاقته مع الجماعات اليهودية من خلال العزل أولاً ثم الانفتاح والدمج ثانياً ، وذلك ضمن آليات تراوحت ما بين اليهودي الملعون ثم اليهودي المبارك، ومع ما رافق ذلك من تغيرات اجتماعية واقتصادية، وانهيار الإقطاع وظهور المدن ثم القوميات ثم التوسع الإمبريالي وانهيار كل البنى الفكرية القروسطية ونشوء بنى فكرية أخرى اعتمدت في مجملها على إشباع الحاجات لذةً واستهلاكاً، وعلى فكرتي التطور الداروينية واللاوعي الفرويدية وأشباههما، ومن المثير ملاحظة أن كل ذلك جعل من الجماعات اليهودية أكثر قوة وأكثر حضوراً وأكثر فعالية.
إن أوروبا (على اختلاف طفيف هنا أو هناك) التي ضمّت في دولها المختلفة "جيتوهات" قيل إنها عوملت بقسوة وعنصرية، هي ذاتها التي حولت "الجيتوهات" إلى أكثر الأماكن قوةً وحضوراً، يمكن القول: إن كل ما أشيع عن إساءة معاملة اليهود في تلك "الجيتوهات" قد يدخل في دائرة الشائعات، فلا يعقل أن ينفتح هذا "الجيتو" فجأة ليتحول أفراده إلى أكثر الناس نفوذاً وغنى وشهرة، ومن الغريب حقاً أن ينجب هذا "الجيتو" باباوات وسياسيين وفنانين وشعراء واقتصاديين، فَعَنْ أية معاملة سيئة نتحدث ؟!
وهل هذا يتطلب رؤية جريدة أو كتابة جديدة للتاريخ الأوروبي ؟!
وهل يمكن رد فكرة العداء للسامية وليس لليهودية هو تعبير عن ذلك الدور الخفي الذي كان "الجيتو" يقوم به ؟! بمعنى أن العداء للسامية هو الدعاية الشعبية وغير الشعبية ضد دور بعض الجماعات اليهودية في المجتمعات الأوروبية بعد أن تخلصت هذه المجتمعات من بنى فكرية قروسطية رأت في اليهودي - كل يهودي - قاتلاً للمسيح.
(لا بد من الإشارة هنا إلى أزمة الفكر الغربي المسيحي في العصور الوسطى من حيث تعامله مع اليهود، فمن جهة كان هذا الفكر بحاجة إلى العهد القديم ليثبت رؤية المسيحية، ومن جهة أخرى كان يرى في اليهود وكل اليهود، قتلة للمسيح، ومن هنا نشأ هذا الاحتقان في تعامل الأوروبيين كاثوليكَ وأرثوذكسَ مع اليهود، حتى حدثت القفزة الكبرى، بتجاوز هذه النظرة إلى ما يشبه الاستسلام إلى تجاور المسيحية واليهودية من خلال العمل في منطقة أخرى هي الأفكار العلمانية المعروفة: الديموقراطية والمواطنة والقانون المدني وفصل الدين عن الدولة، ومعنى ذلك تماماً أن المصالح فوق العقائد، وأن المواطنة فوق الدين، وعلى هذا انمحت الفواصل والفروق بين الناس، وتساووا أمام الدولة وقوانينها).
والعداء للسامية - وإن كانت بهذا المفهوم سلوكاً أوروبياً - إلا أن العداء لليهود - كونهم يهوداً - لها ما يفسرها - ولا نبررها نحن أبداً، وتفسير ذلك أن جماعات يهودية كثيرة تحلت بمزايا (ظرفية) جعلتهم محطّ الكراهية والنفور.
مرة أخرى، فإن العداء للسامية الذي ترافق مع العلمانية رغم أن هذا يناقض ذلك، وجد تعبيره الأكثر بروزاً والأكثر غموضاً في الوقت ذاته مع صعود النازية في ألمانيا، نقول إنه الأكثر بروزاً من حيث استهداف جماعات اليهود في عدد من البلاد الأوروبية، ونقول الأكثر غموضاً لأن العلاقة أو مجموعة العلاقات التي كانت بين النازية والصهيونية أو زعمائها ما تزال محل بحث وتمحيص من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما قيل عن أعداد مَنْ قتلوا وكيف قتلوا محطّ تساؤل عميق، ومن جهة ثالثة، فإن استثمار ما جرى حتى هذه اللحظة من قبل "إسرائيل" وابتزازها الشعب الألماني يثير غير سؤال حول كل ذلك، (ولكن كل هذه الأسئلة لا يجب أن يمنعنا القول إن ما جرى كارثة حقيقية بحق كل الشعوب، وإن النازية هي جريمة عصر بأكمله، وإن الحرب على النازية يعني إنكارها وإنكار مرتكبيها وأفكار أساليبها وإن كل من يفعل فعلها فهو مثلها).
وبعيداً عن هذا، فإن مفهوم العداء للسامية كان ذا خيرٍ عميم للحركة الصهيونية ولدولة "إسرائيل" فقد أصبح هذا المفهوم سيفاً مسلطاً على رقاب السياسيين والمفكرين والمثقفين الذين قد يتجرأوا على انتقاد "إسرائيل" أو سياساتها ضد الشعب الفلسطيني، وعلى هذا فإن نقض هذا المفهوم أو دراسته وتعميق الحوار حوله سيفيد تماماً لجعله مجرد خدعة أخرى من خدع آلة إعلامية ضخمة مهمتها تضخيم ما يمكنها الإفادة منه وتحقير ما يمكن أن يضرها.
أوروبا هذه، وجدت أخيراً حلاً لمشكلة الجماعات اليهودية، وذلك بإيجاد أو خلق وطن لهم في فلسطين على حساب شعب فلسطين الأصلي، إن حل هذه المشكلة بهذا الشكل يتلاءم تماماً والفكر الاستعماري من جهة والتوجهات العلمانية الأوروبية من جهة أخرى، وكلا الفكرين يقوم على إشباع الحاجات أولاً والبراغماتية ثانياً، وبهذا - ومهما كان شكل العلاقة بين الأوروبيين والجماعات اليهودية - انتهت في النهاية إلى إقامة وطن مدّعى في فلسطين على حساب شعب فلسطين، وبهذا تنتهي تلك العلاقة الطويلة من الحذر والتشكك والتأثير الخفي والتشابك السطحي والعضوي إلى أن تقرر أوروبا (وهي هنا القوى الاستعمارية) إلى أن ترى في دولة يهودية حلاً لكل الأزمات السياسية والأخلاقية وحتى الدينية،على حسابنا !! (يجب هنا أن لا ننسى قوة العهد القديم).