هل يكون اغتيال شيرين شرارة انتفاضة جديدة؟‎

ac1704d7-3eb9-4a14-82af-898c419a13ce-1-1-1-1-1-1-2-1-1.jpeg
حجم الخط

بقلم: جمال زقوت‎


لم يكن استشهاد شيرين أبوعاقلة في أطراف مخيم جنين مجرد صدفة، فهي التي قررت أن تخرج مع الفجر لتلك التلة التي يسميها ‏الصحافيون ومندوبو وكالات الأنباء تلة الصحافيين، لتكون مع الحدث وصوت هذا المخيم الذي أوجع المحتلين قبل عشرين عامًا، ‏ويبدو أنهم كانوا قد قرروا تصفية حساب قديم مع المخيم الذي أطلق عليه ياسر عرفات حينها" جنين چراد ". وكما يبدو أيضاً أن تمرير ‏عملية تصفية الحساب القديمة الجديدة في عتمة ليل بعيدًا عن عيون العالم، استدعت من وجهة نظرهم التي لم تعد ترى سوى من عين ‏القناص إسكات صوت شيرين الدافىء وإغلاق عيونها الجميلة التي احترفت رؤية حقيقة معاناة الناس ونقلها للعالم كما هي دون زيادة أو ‏نقصان، فهي أكثر من يعلم أن التراجيديا الفلسطينية التي تدخل نكبة شعبها هذه الأيام عامها الخامس والسبعين، وأن كل ما تحتاجه هذه ‏التراجيديا للخلاص هو عين الحقيقة دون تهويل أو تعتيم، تمامًا كما تحتاج قيادة وطنية تنبع من هول المعاناة دون عنتريات أو تهاون.‏‎

كما لم يكن "ضحايا فائض قوتهم" و"حبيسي"عنصريتهم" يدركون أن دماء شيرين ستكون الوقود الذي يشعل لهيب مطاردة القتلة من ‏قلب فلسطين إلى أربع أرجاء المعمورة لتلاحقهم لعنة روحها التي باتت روح قديسة تثأر لصلب عيسى وليس فقط لسفك دم الفلسطينيين ‏على مذبح حريتهم. فقد احترفت سيدة الخبر البحث عن الحقيقة في مآساة شعبها حتى باتت هي نفسها الحقيقة التي ينتصر فيها كفها ‏وكف شعبها المُدميان على مخرز العدو.‏‎

في القدس التي تتحول كل يوم إلى شعلة لا تنطفئ في واجهة الصراع، وتنير بواباتها إلى دروب الحرية التي باتت على مرمى حجر، ‏يتجدد في شوارعها العتيقة درب آلام جديد يخط فيه مسار صعود روحك للسماء من باحة المستشفى الفرنساوي إلى كنيسة الروم ‏الكاثوليك نحو مقبرة صهيون. وفي معركة الدفاع عن تابوت جثمان القديسة المقدسية وإعلاء راية فلسطين الواحدة ينتصر الكف على ‏المخرز، كما ينتصر شبان المدينة المقدسة على زيف رواية السيادة المزعومة وعطاءات ترامب المسمومة ويرتفع الجثمان على أسنة ‏رماح سواعد الشباب تحت شمس القدس التي تؤذن بقرب حريتها.‏‎

في القدس اليبوسية توحدت أجراس الكنائس وتكبيرات مآذن المساجد، وهتافات الحناجر في بوتقة كفاحية ومشهد مهيب بعشرات ‏الآلاف الذين نبذوا الانقسامات الدخيلة على شعبنا، سواء كانت الفئوية المقيتة العابرة التي استهدفت قصم ظهر الوطنية الجامعة، أو ‏الشعوذات التي تتغذى من نزعات انهزامية تحاول اخفاء وجهها الحقيقي بخزعبلات ليس لها علاقة بسماحة الأديان وسمو معاني ‏المحبة التي احتضنتها حضارات بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.‏‎

كان هذا المشهد المهيب بمثابة الصحوة الجمعية، وقسم الوفاء الشامل لرسالة شيرين أبو عاقلة بأن دماءها لن تذهب هدرًا، و أن ‏عقاب القتلة يمر من بوابة الوحدة وإسقاط الانقسام في وحدة عارمة تجعل من مقولة أن الاحتلال إلى زوال حقيقة لا تقبل التأويل أو ‏المساومة. كما أظهر هذا المشهد الإنساني العظيم مدى صلابة النساء والرجال والشابات والشبان، الذي أعادوا للأذهان مجددًا قوة إرادة ‏الفلسطيني الكنعاني، وإصراره على مواصلة كفاحه لتقريب حقيقة يوم الخلاص من الاحتلال.‏

سيسجل التاريخ أن جنازة تشييع الأيقونة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، والتي غطت أرض فلسطين، وارتفع صدى صوت مشيِّعيها في ‏سماء الكون على مدار ثلاثة أيام "11-13/ آيار /2022، وما تزال ارتداداته تغطي فضاءات الأثير، نعم سيُسجل بأن هذا اليوم في ‏سفر التاريخ الذي يصنعه الفلسطينيون هو يوم اندلاع انتفاضة الحرية بكل ما تحتاجه من إرادة الناس ومتطلبات النهوض والتغيير، و ‏ما تستدعيه من ضرورة مغادرة مرحلة الهوان والإذلال مرة وإلى الأبد، وانصياع المنقسمين لإرادة الشعب الذي أنجب تلك القديسة ‏الأيقونية المقدسية.‏‎

فكما كان التاسع من كانون الاول/ ديسمبر 1987 شرارة اندلاع الانتفاضة الكبرى في يوم دهس وقتل أربع عمال غزيّين ذاهبين للعمل من أجل ‏رزقهم وقوت أطفالهم شمال قطاع غزة، ومن ثم القمع الهمجي لمظاهرة تشييعهم في اليوم التالي في جباليا، فإن احتضان شيرين ‏الأرض التي أحبت بعد اغتيالها برصاصة قناص حاقد يوم 11-5، وقمع تشييعها في القدس يوم 13-5 من العام 2022، دون أن تنسى ‏أو تغفل إعداد تقريرها الأخير عن النكبة قبل يومين من رحيلها، وأن طوفان الجرف البشري بمشاركة مئات الآلاف في تشييعها عبر ‏مدن وقرى البلاد ما هو سوى الإيذان بانتفاضة من طراز جديد وخاص ستكون لها ميزاتها وطابعها الخاص بتميز شيرين الأيقوني ‏وإرادة شبان القدس البطولية، والذين حموا جثمانها من عنف وحقد جنود الاحتلال، بل الذين حرروا القدس المحتلة ولو لبرهة من ‏الزمن كما حرر أبطال الانتفاضة الكبرى أبواب القدس وشوارعها وأرواح ناسها ومناضليها من وهم احتواء المقدسيين.‏‎

إن السيل البشري في جنازات تشييع شيرين يشي بقدرة الفلسطينيين اللامتناهية لميلاد رموزهم المفقودة ومدى حاجتهم لقيادة بحجم ‏تضحياتهم وبصلابة إرادتهم، تصون بوصلة كفاحهم نحو النصر، فهكذا شعب عظيم يقف على أهبة فجر الانتفاضة التي تعيد للناس ‏كرامتها ومكانتها بعد أن لوثتهما فئوية الانقساميين ومصالحهم الأنانية الخاصة. وإن لم تسارع تلك القيادات المهيمنة على المشهد العام ‏على نبذ حالة الهوان وتعود لإرادة الشعب، فإن شعب الجبارين الذي يبدع باجتراح أشكال انتفاضاته المستمرة منذ أكثر من قرن وفق ‏طبيعة اللحظة ومتطلبات كل مرحلة؛ سيلفظها ويستنهض من معمعان الميدان قيادته الموحدة، فلم يعد بالإمكان هدر المزيد من الوقت، ‏فهذا الشعب الذي ينهض دومًا كطائر الفينيق يستحق قيادة مختلفة تتناسب مع تضحياته وطموحاته وإرادته التي لا ولن تنثني أو تنكس!‏‎

صوت شيرين الدافىء والهادئ الذي دخل قلوب الملايين، وهو يوثق لآلاف قصص الظلم والمعاناة؛ يصرخ اليوم في وجه هذا العالم ‏وفي كل أرجاء الكون! "بأن من يهمه الانحياز للعدالة الذبيحة في أرض الانبياء والانتصار لدمي المسفوك مع عشرات الاف الشهداء ‏الذين سبقوني، فعليه أن يغادر نفاقه وازدواجية معاييره، ويرفع صوته لإنهاء معاناة شعبي، وليس أقل من الحرية وانقلاع الاحتلال عن ‏أرضنا المصلوبة في بلاد السيد المسيح.‏‎

هذه رسالة شيرين الأولى والتي فضحت، بمهنيتها وموضوعيتها والتزامها بصوت الحق، جرائم الاحتلال وهي حية، فقد نجحت ‏رسالتها الأخيرة ليس فقط في إخراج الناس من احباطها وإعادة شعورهم الجمعي بالقوة والتحدي بديلًا لثقافة الهزيمة والخنوع وقلة ‏الحيلة والشعارات الفارغة، واستنهاض مارد التحدي لشعب الانتفاضات في أبديتها! كما نجحت بجدارة في تعرية نفاق محتكري ‏إزدواجية المعايير ووضعتهم أمام مسؤولياتهم، وليس أمام العالم سوى تمكين شعب فلسطين من استعادة حقوقه وفي مقدمتها حقه في ‏العودة وفي تقرير المصير. إن كل الشواهد التي سبقت ورافقت جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة تؤكد أن فلسطين تقف على أهبة فجر ‏انتفاضة قادمة، وأن موعد ولادتها تجاوزت أشهر الحمل وفاضت، وكل ما تحتاجه القابلة هو الوطنية الموحدة القادرة على صون ‏صيرورة هذه الانتفاضة لانتزاع فجر الحرية دون كبوات "أوسلوية"، ولا اختراع قيادات خارج رحم إرادة شعب أم البدايات وأم ‏النهايات فلسطين.‏‎

لروحك الرحمة يا شيرين، وستظل ذكراك عطرة أبد الدهر تحتضن ياسمين رياح الحرية أيتها القديسة الكنعانية الجميل.‏