رواية رولا والمجتمع الذكوري بقلم:محمد عمر يوسف القراعين

9999471854
حجم الخط

 محمد عمر يوسف القراعين:
رواية"رولا" والمجتمع الذّكوريّ
ساق الله أيام زمان عندما كنت أقرأ القصّة أو الرّواية للاستمتاع بجمالها لغة وأسلوبا وموضوعا. لم أهتم بهدف فتاة غسان لجورجي زيدان مثلا، أو غزازيل ليوسف زيدان ولا حتى لأولاد حارتنا لصاحب النوبل نجيب محفوظ، سوى أنّها مجموعة قصص تصف معاناة ناس مسحوقين، رمتهم أقدارهم تحت سيطرة نظّار الوقف المستغلّين، وأتاوات الفتوّات القساة.
أمّا الآن فلم أعد أنام ملء جفوني عن شواردها كما يتبجح أبو الطيب، بل أسهر جراها أيّ الرواية وأختصمُ، لأصل إلى حقيقة الهدف من ورائها وتوجهاتها، حتّى أنّ الغلاف أصبح ملوّنا لغاية في نفس يعقوب، يتفنّن البعض باستقرائه حتى أنّه لم يعد وسيلة لغاية، بل غاية في حدّ ذاته.
أمّا روايتنا رولا فقد طوحت بي في قصصها بين مناسف أبو كامل في جبل المكبر، وسجن الرّملة وشواطئ يافا والأميركان كولوني وباب الجديد وحارة السعدية، حيث القبّة الحمراء على رأي الكاتب والتي هي المئذنة الحمراء كما أعرفها. هذه الأماكن تروي حكايات ناس يعيشون على البساطة، يبالغون بإكرام الضّيف، حتى ولو كان ذلك على حساب ضيق ذات اليد، فالمنسف عندهم مثل طبخة المجدّرة، وآخرين يهبون حياتهم للدّفاع عن الوطن، ولكنّهم لا يتورعون عن اقتناص اللذة من جسد فتاة أجنبيّة تنتقل هنا وهناك لأجل المتعة، وفئة ثالثة يتابعون الحياة العاديّة طلبا للسّترة، بتطوير بيت يأوون إليه وفتاة تناسبهم، تتحمل أعباء الحياة معهم. كلّ هؤلاء نجدهم في عائلة أبو كامل، المزارع ميسور الحال، صاحب مزرعة كبيرة يعيش على ما تنتجه من ثمار وأغنام، تسهّل عليه تكليف أبنائه كامل وصالح بذبح الخرفان، وتحضير المناسف من قبل زوجتيه أمّ كامل وأمّ خليل وصالح.
واللافت للنّظر أنّ أبناءه الثّلاثة، مع كونهم متنوّرين في تطلّعاتهم الطّموحة بحياة الواحد في شقّة مستقلّة، واختياره الزّوجة المناسبة بنفسه، لا الّتي تزكّيها أمّه، ويؤمنون على عكس كبارهم بتغريب الزّواج والابتعاد عن زواج البدل، إلا أنّهم لم يكملوا تعليمهم مثل أختهم زينب الجامعيّة، مع أنّ المختار أبو سعيد الذي جاء يطلب يدها إرضاءً لابنه المهندس سامح، لا يؤمن بتعليم البنات إلا للمرحلة الابتدائيّة فقط.
ومن حسن حظّ زينب التي ترفض الزّواج قبل أن يتحرّر أخوها خليل من السّجن، أن أفرج عنه من سجن الرّملة، بعد قضاء أربعة عشر شهرا، فتمّت مراسيم الزواج، بعد تعارفها مع خطيبها في بيتهم بحضور أخيها، وكان الزّواج بعد منتصف السّتّينات "سُكّيتي" بدون سهرات سامر وحناء وأغان، وحتى بدون بدلة زفاف بيضاء للعروس بسبب الأوضاع بعد النّكسة، مع أن صورة الغلاف لعروس تلبس ثوب زفاف أبيض، ربّما لأنّ الرّواية كتبت بعد عودة الغناء والفرح. "بالمناسبة أنا تزوّجت سكيتي سنة 1955 بعد النكبة."
خليل له دور بارز في الرّواية، فهو ناشط سياسيّ نقابيّ، له أصدقاء نقابيّون مثل فؤاد وجورج وعائلته، الذين يسهّلون له الاتّصال بصديقته ابنة العائلة الإنكليزيّة، التي تبنته وأتاحت له زيارة بريطانيا، كما أرسلت له عشرة آلاف جنيه استرليني مع ابنتهم ستيفاني التي جاءت لزيارته في القدس، وأقامت معه أسبوعا في الأميركان كولوني، حيث قضى خليل معها ليالي حمراء. غيّر هذا المبلغ الذي كان يساوي خمسة وثلاثين ألف دولار حياة خليل، إذ بنى لأخويه بيتين، وأصبح من أصجاب الأراضي وفيللة في الماصيون في رام الله، سكنها مع رولا الفتاة المقدسيّة التي أحبّته لنشاطه الوطنيّ، فتزوّجها أخيرا بعد انصراف ستيفاني، كما أنّه افتتح مكتبة في شارع صلاح الدّين للكتب والصّحف السّياسيّة، وذلك لرغبة الشّباب بنشر الثّقافة والوعي بين المواطنين. "تعاملت في السّبعينات مع مكتبة كالتي وصفها الكاتب، إلا أنها لم تعمر طويلا."
الرّواية كما يقول المؤلّف جزء من سباعيّة درب الآلام الفلسطيني، لذلك جاءت تحمل هذا الهمّ المتمثّل بالاحتلال الجاثم بسجونه وعملائه، وتشجيع الشّباب لترك الأرض جهلا منهم، للعمل في ورشات الاحتلال، لذلك ركّز أبو كامل على ما تدرّه مزرعته من ثمار الأشجار والخضار والحبوب، التي تسبب له الاكتفاء الذّاتيّ، وما يفيض عنه ينال الحبايب والجيران جزءًا منه. وبدوره أجاد المؤلّف بالمعلومات التي ضمّنها عن المكان في الرّواية، مارا من يافا نحو القدس، حيث تولى مهمّة دليل سياحيّ داخل البلدة القديمة وخارجها من أسواق ومعالم دينيّة هامة، بادئا بالمسجد الأقصى حتى بوائكه فكنيسة القيامة والمهد، ولم ينس كنيسة الأمم، التي جعلتني أشعر بالتّقصير لأنّني لم أزرها إلا بعد أن بلغت السّتّين من العمر، مع ضيف أجنبيّ طلب زيارتها.
العنصر النّسائيّ في الرّواية كان محدودا بحريم السّلطان أبو كامل، وابنته زينب التي راعت التّقاليد، فلم تجتمع مع خطيبها إلا مع أحد المحارم، على عكس بنت المدينة رولا، التي تبدي إعجابها بخليل لوطنيّته وتعرض عليه الزّواج، فلا يستهجن أهله منها ذلك، فعيب البنت على أهلها، وابنهم لا يعاب ما دام كسيبًا حتى ولو شرّق وغرّب مع ستيفاني، فشرف العائلة مصون. والسّائد أنّ عيب الرّجل وشرفه في جيبه وتجنّبه للخيانه، كما ظهر في الرّواية، لأنّ للوطن حقّا على الجميع تقديسه، ونحترم كلّ من يهب نفسه للدفاع عنه، ومن يدخل السّجن من أجل كفاحه الوطنيّ مثل خليل بطل الرّواية، ونحتقر الخونة العملاء مثل أبو سالم، الذي تبرّأت منه زوجته وابنه، وحتّى الكابتن نمرود الذي لم يهتمّ أن يموت أبو سالم مثل الكلاب.
تشير الرّواية إلى بعض العادات الحسنة، مثل الأخذ بخاطر أهل الميّت واستئذانهم من قبل ذوي العريس، وتعريف بالأكلات والأمثال الشعبيّة، وحبّذا لو أشارت إلى أنّ المناسف ليست قدوة حسنة "عالرّايح والجاي"، لما يسبّبه الكرم الزّائد من ضغط على جيب المعسرين. وأخيرا ظهر للجميع الضّرر الذي كان يسببه طبيب العظام الشّعبيّ " المُجَبر".