بقلم/ توفيق أبو شومر
منذ أيام قليلة، أي في شهر إبريل ومارس 2015 أقدمتْ جحافل الداعشيين على تدمير أهم آثار العراق، في مدينة الموصل وبابل، واستعان المخربون بالجرافات( العلمانية) لتطبيق الشريعة السلفية الفقهية!! لتدمير مدينة الحضر العراقية، الواقعة جنوب غرب الموصل،!! وقبل أيام، دُمِّرتْ مدينة نمرود، وبرج بابل،وهي آثارٌ تعود للقرن الثالث عشر قبل الميلاد، ونُهب متحف الموصل، ونُسفت قلعة، تلعفر، بالمتفجرات، !!
كلُّ تلك الأحداث لم تُثر شعرةً واحدة في مفرِق رأس العرب، على الرغم من أن تدمير التراث أخطر بكثير من تدمير حيوات البشر، فالبشر يتناسلون، أما الآثار فلا يُمكن تعويضها، إذن،مَا سرُّ تدمير الحضارات والآثار في بقايا دول العرب؟
وهل كان الغِنَى والثراءُ والتديُّن، غايةَ السارقين؟
ما تفسيرُ هجوم الداعشيين، ومتفيهقي الدين على الآثار؟
أسئلةٌ عاجلة ينبغي أن نُعيد طرحها، لنعرفَ مستقبل العرب، أو ونهايتهم.
إن مسلسل تدمير الآثار لا يجري بالصدفة المحضة، ولكنه مُخططٌ بعناية، لإزالة ما بقي من تاريخنا، تمهيدا لإعادة صياغة الأوطان، تبدأ إعادة الصياغة بإلغاء ثقافة الإنسان وفكره وتحضُّرِه، لغرض تجهيله بمسح ذاكرته الثقافية،ليصبح جسدا تابعا، مُسيَّرا، عدوّا للتواصل الحضاري، مريضا بالحقد والانتقام، كارها للتواصل بين حضارات الأجداد والأحفاد، مؤمنا بضرورة تدمير الحضارات، وإلغاء العقول، ونسف الفكر والتاريخ!
اسمحوا لي أن أستعيد من ملفاتي السابقة لقطاتٍ عن سرقة الآثار.
ففي اليمن، نشرت وكالة سبأ يوم 13/11/2013 الخبر التالي :
" أقام أحدهم حفلة عُرسٍ في المتحف الوطني بصنعاء، واستغلَّ اللصوصُ هذا الاحتفالَ وسرقوا رُقوقأ أثرية، يُقدَّرُ ثمنُ الواحدة منها بخمسة ملايين دولار"
ليست هذه هي السرقة الأولى، فقد سُرق متحف المُكلّلا، ومتحف زنجبار، وسُرقت سيوفٌ أثرية، ومنحوتات، ورقوق، من بلاد أكبر مخزن أثري في العالم( اليمن)، أمضى المستشرقون والباحثون سنواتٍ طويلة يُنَقِّبون عن آثار الأجناس البشرية في اليمن،وفي اليمن أكثر من مليون مخطوطة وقطعة أثرية، تحتوي على مخزونٍ هائل من التاريخ.
لا يجب أن ننسى أن هناك مخططا واسعا لنهب الآثار وتدميرها، ليس في العراق وحدها، مهد الحضارة البابلية والأشورية، أو في اليمن، مهد الحضارة السبئية،بل في سوريا موئل الحضارة الفينيقية،وفي مصر مهد الحضارة الفرعونية، إنه انتقاءٌ مُبرمجٌ، مخطَّطٌ له، فقد ارتبطتْ الثورة على الحاكمين بسرقات الآثار، كما حدث عام 2011 في ميدان التحرير، فقد سُرق متحفُ التحرير، وكُشف النقابُ، في الوقت نفسه، عن عصابة متخصصة، تسرق الآثار في شاحنات، اسمها، عصابة أبو عطية، فقد سرقت قرية الهيبا الأثرية.
أما في قطاع غزة، فجرى التدميرُ بطريقة مختلفة، عندما اغتُصبت المناطق الأثرية من قِبل بعضِ رجال السلطة، وجرى تدميرُها، والبناءُ فوقها، على شاطئ دير البلح، ثم أقدمت بعض كتائبُ المناضلين بتدمير مساحات أثرية واسعة، بحجة أنها مقراتٌ للمقاومين،وفعلتْ بها أيضا، كما فعلت داعش بآثار الحضر ونمرود، فمسحتها بالجرافات، شمال مخيم الشاطئ بغزة!
ليس من قبيل الصدفة أن يحدث ذلك فيما بقي من بلاد العرب، لأن مسلسل التفكيك السياسي كان واجهةً فقط للتفكيك الأثري التاريخي، لإزالة ما عَلِق ببلاد العرب من حضارات، لكي تعود مرة أخرى إلى عصور الظلام والقمع!
فها هي اليمن موئل الحضارات، تعود إلى عصرها القبلي، فالسياسيون استغنوا بقبائلهم عن القوانين الحضارية، وقسمت المدنُ والقُرى، وفق العشائر والبطون والقبائل، والعائلات، والإثنيات .
أما العراقُ، وسوريا، وليبيا،فما يزالُ مسلسلُ التفكيك جاريا فيها حتى كتابة هذه السطور، مع ملاحظة أن هذا التفكيك الأثري، هو الأخطر، لأنه ليس تغييرا للحكومات والأنظمة السياسية، بل هو تدميرُ للتسلسُل الحضاري التاريخي، في عصرٍ تسعى فيه دولُ العالم المتحضرةُ لترسيخ حضاراتها في عقول أبنائها، لأن ترسيخ الحضارات طريقٌ للسيطرة والتفوُّق والغنى والنفوذ، فتدمير التاريخ لا يعني سوى وضع اللجام في الرِّقاب، وتحويل الشعوب إلى قطعان!
لم يكتفِ أعداءُ الحضارة من العربُ أيضا باستخدام تكنولوجيا العصر الحديث، لتدمير الآثار ومحوها من الوجود ماديا، بل صاحبَ التدميرَ الماديَ، هجومٌ فكري عنصري متطرف، يصبُّ في الهدف ذاته، ففي الوقت نفسه، اقتحمتْ مجموعةٌ من كتائب ( الأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكر) في المملكة العربية السعودية مقرَّ المحاضرات في المعرض الدولي للكتاب مارس 2015 في مدينة الرياض، وقاموا بإفشال وإلغاء محاضرة للمحاضر السعودي، معجب الزهراني، لأن المحاضرةَ، غيرُ شرعية!! كان عنوانها: تحريم تدمير الآثار، وأقامتْ جماعة الأمر بالمعروف الصلاةَ في مكان الندوة!
وغير بعيد عن هذا الحدث، في الكويت، دعا أحدُ الفقهاء، ابراهيم الكندري، وهو من أبرز نجوم الفضائيات، الموالية لتيار تخريب الآثار والتاريخ، إلى تحطيم كل الآثار، بما فيها أهرام الفراعنة في مصر، لأنها، من وجهة نظره، أصنامٌ تُعبَد!!!!!
ويرجع سببُ كتابتي المُكرَّرَة عن هذا الموضوع إلى قصةٍ نشرتها معظم وسائل الإعلام في إسرائيل، في اليوم نفسه، الذي تجري فيه جرائم تحطيم الآثار العربية ونهبها،يوم 7/3/2015 لنُقارن بين البناء والهدم، حتى بتزييف تاريخنا، وتوظيفه سياسيا، وترسيخه في عقول النشء في إسرائيل:
"اكتشفت مجموعة من الرحالة الإسرائيليين، ممن كانوا في رحلةٍ إلى كهفٍ في شمال إسرائيل، كنزا أثريا من العملات والحلق والأساور الفضية، تعود لعصر الإسكندر الأكبر، الذي غزا (إسرائيل)! في العهد الهليني، في القرن الرابع قبل الميلاد، وكانت القطع النقدية ملفوفة في قطعة قماش، ويُعتبر هذا الاكتشاف أهم الاكتشافات الأثرية في السنوات الماضية، وشكرَ أمينُ المتحف، عمير غانور، هذه المجموعة، المكونة من الأب، رؤفين زاخي، وابنه، شن، وصديقه، ليئور حيلوني، وكان ممكنا لهؤلاء أن يُصبحوا من أصحاب الملايين، ولكنهم سلموها للمتحف الإسرائيلي" انتهى الخبرُ
أخيرا؛
كلُّ وطنٍ لا يُجرِّم تدميرَ الآثار، ولا يستحدث البرامج والمناهج التعليمية، غير الحشوية، الباعثة على تقدير واحترام وصيانة التراث، هو وطنٌ يعيش في غيبوبة، في انتظار الموت والفناء!
كلُّ أُمَّةٍ لا تُسخِّر جامعاتِها ومراكز أبحاثها، لاكتشاف الآثار التاريخية، وربطها بالتسلسل التاريخي العالمي، أوطانٌ ليس لها مكان في مستقبل الأجيال.
ضابط مخابرات أمريكي سابق: سيتم تدمير الجيش الإسرائيلي
18 أكتوبر 2023