"مسيرة الأعلام" وتصويب خطاب المقاومة

1611563257-7378-9.jpg
حجم الخط

بقلم د. وليد القططي

 

 

 بعد انتهاء "مسيرة الأعلام"، التي نفذها المستوطنون اليهود الصهاينة في القدس المحتلة من دون أنْ يتكرّر مشهد انفضاضها كما حدث في بدء معركة "سيف القدس" العام الماضي، تسلّل نوعٌ من الإحساس بالانكسار والقهر إلى نفوس الفلسطينيين وجمهور المقاومة بسبب الإحجام عن الرد، وكان ذلك محلّ جدلٍ ونقاش عميق لدى معظم أبناء الشعب الفلسطيني.

وفي تقديري أنَّ المشكلة لم تكن في عدم رد المقاومة على المسيرة بالصواريخ ليتكرر مشهد انفضاض المسيرة مجدداً، ولكنَّ المشكلة كمنت في خطاب المقاومة السياسي والإعلامي، الذي سبق "مسيرة الأعلام" ونتج منه رفع سقف التوقعات ومستوى القدرات، فأعطى انطباعاً عاماً بأنَّ الرد سيكون سقفه الصواريخ فوق رؤوس المشاركين في المسيرة وقدرته على فضّها.

وكي لا تتكرّر هذه المشكلة الناجمة عن الفجوة بين المتوقّع المرغوب فيه وما حدث فعلاً تأتي ضرورة تصويب خطاب المقاومة وتطويره لإزالة غير المفيد منه وحذف غير المنسجم وأداء المقاومة.

تصويب خطاب المقاومة وتطويره كانا موضوع مقالي قبل "مسيرة الأعلام" بثلاثة أسابيع تقريباً وعنوانه "خطاب المقاومة بين أماني النصر ومشروع التحرير". وقد نبّهت فيه إلى خطر بناء خطاب المقاومة على أماني النصر المفصولة عن الواقع، وغير المرتبطة بمشروع التحرير، لأنَّ "أماني النصر ترتكز إلى إيمان يؤدي إلى التواكل أو التهور، ووعي يؤدي إلى الجمود أوالتسرّع... ومشروع المقاومة والتحرير السائر نحو وعد الآخرة، يتميّز من الأماني بنهجه الواضح، كلام أقل وعمل أكثر".

كذلك، كانا موضوع مقال نشرته قبل 4 سنين عقب ارتقاء عشرات الشهداء ومئات الجرحى في يومٍ واحد لمناسبة ذكرى النكبة في إطار مسيرات العودة وكسر الحصار عنوانه "مسيرة العودة ومذبحة النكبة.. وقفة للمراجعة والتأمل"، مضمونه مراجعة الخطاب السياسي والإعلامي للمقاومة الفلسطينية، الذي رفع سقف التوقّعات لأهداف مسيرات العودة وكسر الحصار، باتجاه إمكان العودة الفعلية إلى فلسطين المحتلة في عام النكبة، فكان ذلك سبباً في تحريض الشباب الثائر على اقتحام السلك الفاصل بين قطاع غزة والأرض المحتلة عام 1948، ووقوعهم فريسة سهلة للعدو، من دون ضرورة للتضحية بهم في صراع ممتدّ وتراكمي طويل الأمد.

وإذا كان خطاب المقاومة آنذاك بحاجة إلى تصويب وتطوير، فالحاجة اليوم إلى ذلك أكثر إلحاحاً، لا سيما بعد "مسيرة الأعلام" وما تبعها من إحساسٍ بالكسر والقهر، بعد ما مرّت المسيرة كما خطّط لها المستوطنون الصهاينة، فشكلّت تحدّياً إسرائيلياً، لشعبٍ حُرّ يأبى الظلم والضيم، ولمقاومةٍ أبيّه ترفض الهوان والإذعان.

هذا التحدي الاحتلالي تحتاج مواجهته إلى الثقة والاتزان والصلابة، بخطاب مقاوم واعٍ يصدّقه العمل المقاوم، ويجمع بين الحماسة الثورية والمعطيات الواقعية، ويُعطي سقف توقعات مبنياً على أعمدة قوية من الإنجازات السابقة والطموح اللاحق، ويعتمد على مشروع المقاومة والتحرير لا على أماني النصر وأحلام الفرقة الناجية... وأي طريق آخر هو هروب من التحدي إلى الخلف أو إلى الأمام، إلى الخلف بالتخاذل وهناً وضعفاً، وإلى الأمام بالتهوّر تسرّعاً وتخبّطاً، وكلاهما – التخاذل والتهوّر – خطأ يؤدي إلى الشلل والفشل في مواجهة التحدي.

مواجهة تحدي "مسيرة الأعلام" كانت بحاجة إلى خطاب سياسي وإعلامي مقاوم واعٍ يتجاوز الأخطاء السابقة، يؤدي إلى تصويبه وتطويره بعيداً من التهويل والتهوين، ومن ذلك الحاجة إلى القراءة الموضوعية للمسيرة في اتجاهين: الأول تقديمها الى الشعب الفلسطيني وجمهور المقاومة من دون تهويل وتضخيم – على الرغم من خطرها – كي لا تُعد نقطة تحوّل مصيرية في الصراع على فلسطين مع الكيان الصهيوني، بحيث يصبح نجاحُ المسيرة أو فشلها نصراً كبيراً أو إخفاقاً خطراً، وكأنَّ القدس المحتلة قد حُرّرت، أو القدس (المُحرّرة) قد احتلت، وهذا الاتجاه فيه تأكيد لطبيعة الصراع الممتد والبعيد المدى، والمعتمد على الحرب الشعبية طويلة الأمد، القائمة على استمرارية الصمود والمقاومة، وإبقاء جذوة الجهاد والنضال مُشتعلة، وتواصل إستراتيجية مُشاغلة العدو واستنزافه، وتناوب موجات التصعيد المواجهة، وطبيعة الحرب ومعاركها السجال مع العدو.

والحاجة إلى القراءة الموضوعية لـ "مسيرة الأعلام" في الاتجاه الآخر الخاص بأهميتها للكيان الصهيوني من دون تهوين أو تصغير، فقد تجاوزت المسيرة قراءتنا لها كمعركة سيادة على القدس، أو "أورشليم الموحّدة"، إلى معركة على الوجود ومستقبل "إسرائيل" في القدس وكل فلسطين، ومرتبطة بتخفيف الإحساس بالقلق الوجودي الجمعي، الذي تزايد باطّراد بعد عجز الكيان الصهيوني عن تحقيق أيّ نصر في حروبه المتكرّرة مع المقاومة في لبنان وفلسطين، ما بين حربي تموز/يوليو 2006 في لبنان وسيف القدس 2021 في فلسطين.

وفي الطريق إلى تأكيد الكيان لوجوده في المسيرة، كان يعاكس عجلة الزمن السائر نحو وعد الآخرة وإزالة وجوده، ويُخالف اتجاه عقارب الساعة التي تُقرّب ساعته، فكان يبحث في "مسيرة الأعلام" عن مفتاح وهمي يفك به الارتباط بين غزة بشعبها ومقاومتها وكلّ فلسطين وقلبها القدس، وكان يُفتّش عن مخلوط سحري يُرمّم به صورة جيشه المُحطّمة، ولكل ذلك وغيره كانت "مسيرة الأعلام" للكيان الصهيوني غاية في الأهمية وتستحق المغامرة بحربٍ استعدّ لها جيداً بما يعلم، ولكنه قد يذهب بها إلى ما يجهل.

ختاماً نحن كشعبٍ ومقاومة بعد "مسيرة الأعلام" بحاجة ضرورية إلى تصويب خطاب المقاومة السياسي والإعلامي الواعي لتنقيته من العنترية والغوغائية، وتصفيته من المبالغة والأوهام، وتطويره ليظل خطاباً مقاوماً يجمع بين الثورية والواقعية، ويدمج بين الخطاب التحريضي والعقلاني، وينسجم فيه القول والعمل، ويوازن بين خطابي القوة والمظلومية، ويأتي بعد التقييم فيه التقويم، ويبتعد عن التهويل والتهوين، ويبني على مراكمة نقاط القوة ومعالجة نقاط الضعف... وقبل كل ذلك، لا يبالغ فيما تحقق من إنجازات أو فيما سيأتي من أهداف وتوقعات.