المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث»
تحول كيسنجر مع الوقت إلى صورة للشيطان السياسي. المخادع والمتآمر والعميل المزدوج... هذه بعض الصفات التي لطخت صورته. حتى المسلسلات الكرتونية الكوميدية مثل «سيمبسون» تُظهره بصورة الرجل الشرير الذي يدخل المشهد ليضع لمساته الأخيرة على الخطة الخبيثة.
لم يكن على هذه الحال في البداية، حيث كان نجماً وساحراً وظهر على غلاف مجلة «التايم» أكثر من 15 مرة، قبل أن تنقلب الحال وتبدأ حملة ملاحقة الساحرات. يقول كاتب مذكراته المؤرخ نيل فيرغسون، إن كيسنجر واجه الاتهامات من الاتجاهين، اليمين واليسار. أقصى اليمين اتهموه بالشيوعية بعد الاتفاقيات التي عقدها مع الصين، ولاحقاً مع الاتحاد السوفياتي، وروجوا شائعة بأنه عميل لـ«كي جي بي» يحمل الاسم السري Bor. تسلل إلى البيت الأبيض، كما يقول أحد الكتاب، بهدف إنهاك أميركا من خلال إطالة مدة تدخلها في فيتنام. تهمة أخرى «كيسنجر عميل روسي يعمل على جعل شعب الولايات الأميركية رهينة للكرملين»، وأحدهم قال إنه خلف انتشار الإيدز لرغبته في تقليل عدد السكان المتزايد (كما يُتهم بيل غيتس حالياً أنه خلف وباء «كورونا»). تهم مجنونة لم يثبت منها أي شيء، لكنه تحول لشخصية مستهدفة وقابلة لنسج المؤامرات حوله.
مؤامرات اليسار الأقوى نفوذاً كانت أكثر عقلانية ومنطقية من الخزعبلات التي أطلقها أقصى اليمين. اتهم بأنه أقر السياسات في تشيلي لخدمة مصالح الشركات الأميركية الكبرى. في فيلمه «التاريخ غير المخبر لأميركا»، وصفه المخرج أوليفر ستون بـ«السيكوباتي». صحافي آخر يقول عنه: «كيسنجر... الشيطان بلكنته الألمانية الثقيلة وعينيه المتطلعتين في مكان رخو بهرم السلطة ليتسلق عليه». الكاتب الإنجليزي اللامع كريستوفر هيتشنز، اتهمه في كتاب عنه بجرائم ضد الإنسانية في فيتنام وتشيلي والأرجنتين وبنغلاديش وقائمة طويلة من الدول. وهيتنشز كان متحمساً لمحاكمة كيسنجر، حيث كان يذهب حاملاً صورة كيسنجر أمام المحاكم ويطالب باعتقاله (هيتنشز متخصص بمهاجمة الشخصيات التاريخية مثل غاندي وماما تريزا وغيرهما).
قائمة طويلة من الاتهامات والمتهمين التي تحمل كيسنجر كل الرزايا من الجرائم والاغتيالات والاعتقالات. هي باختصار تفكير مؤامراتي توسع مع الوقت حتى أصبح ملاصقاً لاسم الشخص ويغتال شخصيته ويدمر صورته. ويطرح المؤرخ سؤالاً: الولايات المتحدة تدخلت في العديد من الدول. لماذا لا نسمع قصصاً تروى عن غيره من الشخصيات الأميركية؟
هذا ما يحدث مع الشخصيات المهمة في التاريخ، حيث تُنسج عنها الأساطير والحكايا التي تعتمد على معلومات مغلوطة وتجعل منها حكاية يمكن تسويقها للعامة. لا ننسى أن الجمهور العام ينجذب لقصص المؤامرات. وجزء منها للتسويق، حيث تحول اسم كيسنجر الشرير العميل ومجرم الحرب لتجارة نافعة تحقق مبيعات عالية.
الكاتب السياسي جوزف جوف، له رأي آخر في سبب الهجوم المستمر على كيسنجر في رده على والتر إيزاكسون مؤلف كتاب «كيسنجر»، الذي يصفه جوزف بأنه يعامل على طريقة «اشنقه وبعد ذلك حاكمه!». في الكتاب يوجه المؤلف كلماته مباشرة لكيسنجر: «هنري، انظر إلي. أنت أميركي الآن ونحن أميركيون هاجرنا أوروبا لأننا نريد جيفرسون وويلسون وليس بسمارك ومترنيخ». رغم النبرة التخوينية الخافتة في هذا التوبيخ - يشير إلى أصول كيسنجر الألمانية - إلا أنه يقصد أننا نريد السياسة المثالية وليست الواقعية. ويجيب الكاتب: «لماذا بسمارك وليس جيفرسون؟»، بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد أمام أميركا خيار بعد أن انتهت عزلتها واشتبكت بالعالم إلا أن تعتمد على السياسة الواقعية والتعامل مع القوى الدولية المختلفة. هناك تهديد كبير من عدو اسمه الاتحاد السوفياتي ولم يعد أحد يحرس المحيطات كما كانت تفعل الإمبراطورية البريطانية. على أميركا أن تعمل ذلك وهذا ما عمله الرئيس روزفلت بتحالفه مع ستالين للقضاء على هتلر. سبب الهجوم الكثيف على كيسنجر، لأنه كان تعبيراً صريحاً وبلا اعتذار لهذه السياسة الواقعية. الداخل يحكمه القانون والقيم المثالية، والخارج يحكمه توازن القوى بين الدول. من هنا نرى أيضاً ملامح تفكير كيسنجر في الأزمة الأوكرانية التي أغضبت منه الرئيس زيلينسكي ورفاقه. الواقعية، كما يرى، هي الحل وليست المثالية.
الأستاذ سمير عطا الله أشار في مقاله إلى أن مؤلفات كيسنجر مجرد فذلكات. تصريح قوي من الكاتب القدير الذي يشاركه الرئيس آيزنهاور عدم إعجابه في البداية بكيسنجر عندما اختاره نيكسون، حيث قال له: «ولكن كيسنجر بروفسور؟! البروفسور تطلب منه أن يقوم بالدراسات، ولكن لا تضعه أبداً في منصب على أي شيء»