رفع البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس خلال اجتماعه في 4 مايو للمرة الثانية على التوالي، وأشار إلى البدء في تنفيذ التشديد الكمي (QT) اعتبارًا من يونيو من هذا العام، كما رفع بنك إنجلترا (BoE) أسعار الفائدة في اليوم التالي للمرة الرابعة على التوالي، بهدف محاربة التضخم المرتفع بقوة، وبرغم ذلك أشار البنك المركزي إلى أن السياسة النقدية ليست حلاً سحريًا.
وقد أكد رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي "جيروم باول" أن الاقتصاد الأمريكي الحالي قوي بما يكفي لتحمل السياسة النقدية الأكثر تشددًا ومن المتوقع أن يحقق هبوطًا سلسًا، ومع ذلك، فإن تشديد البنك المركزي لسياسته النقدية ليست بالمهمة السهلة، فقد يؤدي الهبوط الحاد العرضي للاقتصاد إلى بطالة عالية بشكل مؤلم وانكماش اقتصادي سريع.
إذا نظرنا إلى الوراء في موجة التشديد في عام 2013، ألمح البنك الاحتياطي الفيدرالي فقط إلى أنه قد يقلص مشترياته من السندات مما أدي إلى نوبة غضب مستدقة في الأسواق المالية العالمية، بناءً على تجربته الأخيرة، فإن الاحتياطي الفيدرالي أكثر حذرًا في إبلاغ المستثمرين بالإجراءات المستقبلية المحتملة، بالإضافة إلى ذلك، اعترف رئيس بنك إنجلترا "أندرو بيلي" بأن سياسة أسعار الفائدة لدى بنك إنجلترا تواجه تحديات كبيرة بين محاربة التضخم وتجنب الركود.
في مواجهة الزيادات الأخيرة في أسعار الفائدة من جانب البنوك المركزية للاقتصادات الكبرى، قامت بعض البنوك المركزية في الاقتصادات الناشئة برفع أسعار الفائدة بالفعل، على سبيل المثال: رفع البنك المركزي البرازيلي أسعار الفائدة بمقدار 40 نقطة أساس في 4 مايو، ورفع البنك المركزي الهندي أسعار الفائدة بمقدار 40 نقطة أساس، يمكن أن يُعزى السبب الذي يجعل الاقتصادات الناشئة تتعاون مع الزيادات الأخيرة في أسعار الفائدة من جانب البنوك المركزية للاقتصادات المتقدمة (وخاصة البنك الاحتياطي الفيدرالي) إلى محاولتها في تخفيف الضغط على قيمة عملتها المحلية، خاصة وأن قرار البنك الاحتياطي الفيدرالي أدي إلى حدوث ارتدادات غير مباشرة من تحركات رأس المال العالمية مما تسبب في مواجهة اقتصادات الأسواق الناشئة معدلات تحويل ضخمة.
التضخم المتسارع يصعب التعامل معه
أدت اضطرابات سلسلة التوريد الناجمة عن الوباء إلى جانب سياسة التحفيز الفضفاضة للغاية إلى أسرع تضخم منذ عقود، مما اضطر البنوك المركزية الرئيسية إلى رفع سعر الفائدة وأدى أيضًا إلى زيادة مخاوف السوق المالية بشأن الركود العالمي، كما أدت آثار الحرب الروسية الأوكرانية إلى تفاقم هذا القلق.
أظهرت البيانات الصادرة عن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن مؤشر أسعار المستهلكين نما لأعلى مستوياته منذ أوائل الثمانينيات، وانتشر التضخم في العديد من الدول والمناطق حول العالم وانخفضت أسعار تداول الأسهم وبدأ التضخم الذي أصبح أسرع تضخم عالمي منذ عقود في تثبيط عزيمة العديد من المستهلكين وخاصة أولئك الذين يعانون من ارتفاع أسعار الغذاء والوقود، يخطط حوالي 84 % من الأمريكيين لخفض الإنفاق بسبب ارتفاع الأسعار، وفقًا لاستطلاع هاريس بلومبرج.
وهناك فرصة كبيرة لاستمرار دوامة التضخم التي يغذيها ارتفاع الأجور لسنوات قادمة، فقد أصبحت الأسر أقل مقاومة لدفع أسعار أعلى وأصبحت الشركات أقل مقاومة لتقديم أجور أعلى، وبالتالي ستستمر الأسعار والأجور في الارتفاع حتى ينهار الاقتصاد ويدخل في حالة ركود، حيث يؤدي التضخم إلى تآكل الدخل.
إنها مثل لعبة الاستيلاء على الكراسي: يعلم الجميع أن اللعبة ستنتهي، لكنهم يشعرون بالحاجة إلى الركض حول الدائرة بسرعات متزايدة على أمل أن يكونوا في أفضل وضع ممكن، يشتري المستهلكون عن قصد سريعًا في وقت مبكر لتجنب الزيادات المتوقعة في الأسعار، هذا الوضع يسمى "علم النفس التضخمي"، ويمكن للشركات تمرير تكاليف أعلى للمستهلكين بسهولة بما في ذلك الزيادات المتوقعة في التكلفة المستقبلية.
وهذا ما حدث في الولايات المتحدة في العصر التضخمي الأخير الذي بدأ عام 1965 وانتهى عام 1982، يبدو أن توقعات التضخم أصبحت قصة متداولة ذاتيًا، يؤكد العديد من المحللين أن الوضع الحالي ليس مثل ما واجهناه في سابقًا في العصر التضخمي، هذا صحيح، ولكن المقارنة الأكثر ملاءمة هي السنوات الخمس إلى العشر السابقة لتلك الفترة عندما لم يكن التضخم قد وصل بعد إلى مستويات الأزمة، حيث زعم مسؤولو السياسة أن لديهم الأدوات السياسية لعكس التضخم بسهولة، كما يقولون الآن.
وقد فشلت سياسات رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبين للسيطرة على التضخم بشكل متكرر خلال فترة العصر التضخمي الأخير، لم يبدأ التضخم في الانخفاض حتى تم تعيين "بول فولكر" رئيسًا للبنك الاحتياطي الفيدرالي ورفع معدل الأموال الفيدرالية إلى 20% في عام 1980، لقد دفع أسعار الفائدة بقوة ورفعها بنسبة 10% في 6 أشهر فقط، وبذلك، أدى إلى خفض التضخم الأمريكي بنسبة 10% وارتفاع معدل البطالة إلى 10%.
يقال إن اضطرابات الإمدادات مؤقتة وسوف ينخفض التضخم قريبًا، لكن الدراسة الاستقصائية التي أجرتها جامعة ميشيغان تؤكد أن نقص الإمدادات من العوامل المهمة، وأن هذا النقص لم يلعب سوى دور أولي في رفع توقعات التضخم، وأشار نصف المستهلكين إلى حدوث نقص في الأشهر التسعة الماضية، ومع ذلك، لم يعد النقص مرتبطًا الآن بارتفاع توقعات التضخم.
سرعان ما تبنى المستهلكون فكرة أن التضخم له أسباب متعددة، مستشهدين بالدوافع المزدوجة بزيادة الإنفاق الحكومي الفيدرالي للولايات المتحدة والسياسة النقدية التوسعية للبنك الاحتياطي، لقد أدت التحويلات ومدفوعات الإغاثة إلى زيادة دخل الأسرة بشكل كبير خلال الجائحة، ويعني ارتفاع الدخل أن ميزانيات الأسرة يمكنها بسهولة تحمل أسعار أعلى، مما سيشكل عاملاً أكثر ديمومة لزيادة الأسعار.
اختلاف السياسة النقدية بين البنوك المركزية
تتسارع وتيرة تمايز السياسة النقدية في الاقتصادات الكبرى في العالم، فبعد رفع أسعار الفائدة في مايو اشتدت التوقعات بأن يواصل البنك الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة خلال هذا العام، وسيبدأ في تخفيض حجم الميزانية العمومية في يونيو، بينما تحولت السياسات النقدية للبنوك المركزية للولايات المتحدة والمملكة المتحدة من فضفاضة إلى ضيقة، لا تزال بعض البنوك المركزية تحافظ على سياسات نقدية فضفاضة مثل البنك المركزي الياباني، أما البنك المركزي الأوروبي فقد غيّر موقفه فقط بعدم رفع أسعار الفائدة في عام 2022، مما أدى إلى تسريع التقدم في خفض خطة شراء الأصول، بينما فعلت قلة من البنوك المركزي العكس مثل تركيا التي تفضل خفض سعر الفائدة لدعم الشركات الصغيرة وتسهيل الاقراض متوسط الآجل.
مع سياسة البنك الاحتياطي الفيدرالي باعتبارها السياسة الرئيسية التي توجه البنوك الأخري، تواجه البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم تحديًا رهيبًا يتمثل في تشديد السياسة النقدية وتهدئة التضخم دون دفع الاقتصاد إلى الركود.
أفاد بنك أوف أمريكا أن مديري الصناديق لديهم وجهة نظر أكثر تشاؤمًا بشأن توقعات النمو الاقتصادي على الإطلاق، في حين زاد بنك جيه بي مورجان تشيس مخصصات خسائر القروض للحماية من تدهور الاقتصاد.
من ناحية أخرى، حذرت الأمم المتحدة من أن الدول النامية تواجه "عاصفة كاملة" مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وخفضت منظمة التجارة العالمية توقعاتها لنمو التجارة العالمية، قال صندوق النقد الدولي (IMF) إن الحرب الروسية الأوكرانية تسببت في خفض توقعاته لهذا العام لـ 143 اقتصادًا، والتي تمثل 86% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وقالت "كريستالينا جورجيفا" المديرة العامة لصندوق النقد الدولي "نواجه أزمة تلو الأخرى".