الكاتب: سري سمور
((إن الحديث عن وضع المثقف العربي في هذه المرحلة مخيف ومؤلم، ولكنه ضروري جدا، وقد قررت أن أبذل جهد المقل في تناول الحالة الثقافية العربية في سلسلة مقالات ألقى بها الله متحللا من عبء ثقيل، ومتأملا أن ينهض ولو قليل من المثقفين العرب لحمل الأمانة، متحررا من تقديم المهم على الأهم، لا سيما في هذه المرحلة المفصلية من التاريخ العربي والإسلامي والإنساني.))
لماذا هذا الحال المزري وهذه المخرجات السيئة من عموم المثقفين العرب؟ وقد ينكرون، ويرون أنهم على العكس يذودون بأدواتهم الثقافية عن الأمة، ويحاولون حماية العرب مما يحيق بهم من أخطار؛ تماما كالأخسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا...إن الإجابة عن السؤال المهم في هذا الوقت متشعبة، ولكن هناك نقاط مركزية مهمة أراها تتلخص بما يلي:-
أ- عقلية الحرب الباردة ما زالت تسيطر على الجسد المتصدر في قيادة الحالة الثقافية العربية، فقد تغيرت الدنيا وبقي أصحاب هذه العقلية في مواقعهم الممسكة والمؤثرة حد التحكم بصياغة وعي الأمة؛ فمثلا النظر إلى روسيا الحالية وكأنها نسخة عن الاتحاد السوفياتي، مع وضوح التوجه الرأسمالي الأرثوذكسي المختلف عن الاشتراكي الماركسي قبل ربع قرن، ينم عن تحكم العقلية القديمة في النظر إلى المرحلة المفصلية والمصيرية الراهنة...طبعا هذا فقط أحد الأمثلة، فهناك تمظهرات أخرى لتحكم عقلية التفكير زمن الحرب الباردة...وأصلا كانت طريقة التفكير في زمن الحرب الباردة يعتريها خلل ووهم كبيرين، فكيف تُستدعى الآن؟! ولو أخذنا الكيان العبري مثالا لوجدناه يجدد حالته وفق المزاج العام؛ فالإعلام الإسرائيلي تولته شخصيات يمينية، واليسار صار يمالئ اليمين، وهذا ما يرصده الباحثون المتابعون للشأن الإعلامي الصهيوني. ب- خضوع المثقفين لرغبات الممولين المحليين والخارجيين المناقضة غالبا للرسالة الثقافية التوعوية التي تعمل على متانة الجبهة الداخلية؛ فالغرب أدرك منذ زمن بعيد أنه لا بد من احتواء الحالة الثقافية العربية وجعلها سلاحا فتاكا بيده لا عليه، وساعدته الظروف المختلفة على تحقيق أهدافه، فاستقطب عددا لا يستهان به كما و نوعا من المثقفين، وموّل كثيرا من البرامج والأنشطة التي جعلت المثقف العربي أسيرا لمحدداتها ومعاييرها وشروطها، التي بالضرورة تخدم مصالحه لا مصالح الأمة، فصار المثقف صدى لهذه البرامج، أو نسخة كربونية عن المموّل الذي يدفع المال لاعتبارات غالبا لا تلتقي مع المصلحة العامة. ت- تراكم الهزائم المتكررة وضعف الاهتمام بالقضية الفلسطينية التي تجسد أهم تحد للجغرافية والتاريخ في قلب العرب، مما أفقد الجمهور ومن ثم المثقف الثقة بالنفس وبإمكانية تعافي الأمة. ث- خضوع عدد -لا نستطيع معرفته بالضبط- للابتزاز جرّاء التورط في أعمال مشينة، وامتلاك بعض الجهات مادة مصورة أو وثائق تجعل الخاضع للابتزاز مجرد صدى لها، ومعبرا عن رغباتها وأهوائها، ومنفذا لأوامرها دون نقاش أو اعتراض؛ وقد رشح عن بعض الإعلاميين أو العاملين في الوسط الفني في مصر شيء من هذا القبيل. ج- بسبب ارتفاع نسبة الأمية؛ حيث أفادت ألكسو العام الماضي 2014 أن نسبة الأمية في الوطن العربي قد بلغت 19% أي أن هناك أكثر من 96 مليون أمي من أصل حوالي 354 مليون نسمة، وهذا الأمر له تأثير سلبي على تكوين الرأي وصناعة الوعي، وربما زاد من هيمنة الدراما والتلفزة على عقول الجماهير، وطبعا حينما نتحدث عن غير الأميين لا ننسى -كما ذكرنا في مقال سابق- أنه حتى المتعلمين منهم من هو سطحي و يمكن تشكيل وعيه بالاتجاه الذي يريده المعنيون بتخريب وتزييف الحقائق. ح- وعطفا على النقطة السابقة فإن هناك تدنّ في نوعية القراءة والاطلاع والبحث عند الجماهير، لأسباب تناولتها في مقالي الموسوم بـ(أزمة قراءة أم أزمة كتاب) قبل أكثر من سنتين، وهذا أثر على قدرة المثقف المخلص على التأثير في تطوير الفكر. خ- سوء الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة؛ فكيف ترجو ممن لا يجد قوت يومه، أو من شاب تخرج من الجامعة لا يجد فرصة عمل تضمن له أدنى متطلبات العيش الكريم أن يفكر في حال أمته والأخطار التي تهدد كيانها، ولو صرخ المثقف بأعلى صوته، فإن نداء المعدة يغلب على أي نداء آخر. د- وجود توجه لا يستهان بنسبته عند المثقفين للعيش في أبراج عاجية وعدم النزول إلى الشارع-بالمعنى المجازي- وتلمّس الهموم اليومية للناس، أو التزام مثقفين الحياد في قضايا مصيرية خوفا أو طمعا، أو انشغال مثقفين بقضايا فلسفية وجدلية ربما تصلح للدراسة المتخصصة والنخبوية، ولكن لا حظ لها في استنهاض الوعي الجمعي، مما خلق جدارا سميكا بين المثقف وبين عامة الناس. عموما هذه هي أبرز أسباب المحل والتصحر والتخبط والوهن والانهيار الذي نراه يعتري مجمل الحالة الثقافية العربية الراهنة، وهناك أسباب أخرى قد تكون ناتجة عما سبق أو نتيجة تلقائية له، اجتمعت وتراكمت وترسبت فأخرجت لنا هذا المشهد الذي لا نختلف على أنه قبيح!