طفرة الغاز التي تجتاح شرق المتوسط منذ عقدين، الطفرة التي تحولت إلى حمّى، تحولت بدورها إلى صراع بين القوى الإقليمية الجديدة التي تطمح إلى دور في مستقبل المنطقة، ونبشت في اندفاعها مقابر الملفات المتروكة، تلك التي بقيت على الرفوف وفي الأدراج أكثر من قرن كامل. يذكّر الأمر بالإسباني كارلوس زافون وسلسلة "مقبرة الكتب المنسية"، حيث تتجول أحلام وحكايات ومصائر ناقصة في الأدراج ومتاهة الرفوف، ويستيقظ الحنين والرغبة في استعادة الوقت. فتح الأتراك الملفات العثمانية ما بعد الحرب العالمية الأولى، ومصائر الجزر والاتفاقيات التي ترتبت على نتائج تلك الحرب وموازين القوى التي فرضتها، وبدا أن موازين قوى جديدة تسعى إلى إعادة ترتيب النفوذ والقوة.
الكيانات التي تسببت بها اتفاقية سايكس - بيكو تحديداً؛ العراق، سوريا، لبنان، فلسطين، تواصل الغرق في تشوهات خلقية رافقتها منذ الولادة، والشريك الروسي الذي انسحب من تلك الاتفاقية بسبب استيلاء البلاشفة على الحكم وإعلان الاتحاد السوفياتي، يعود بقوة إلى المتوسط ولكن تحت اسمه الأول "روسيا"، ها هو يغطس قدميه في مياه المتوسط الدافئة.
"إسرائيل" التي شكلت الاتفاقية بنية تحتية لتأسيسها بعد تخلي فرنسا عن حصتها في فلسطين وتفرد بريطانيا، تحاول أن تتجاوز حجمها المحدود وخصرها الضيق عبر "الغاز" هذه المرة بعد سلسلة من القفزات في خريطة المنطقة، متكئة على فرنسا وبريطانيا ثم الولايات المتحدة. الرعاية المفرطة والتغذية الجيدة التي حصلت عليها عبر عقود طويلة تجاوزت حاجتها بكثير، وما نتج منها من فائض قوة من جهة، و"امتياز" العيش خارج القوانين من جهة ثانية، في ظاهرة قوة فريدة مصطنعة، منحتها فرصة الانتقال من "مغامرة" إلى "حقيقة"، ولكنها حقيقة تحمل في نواتها قلق المغامرة ومخاطرها.
استطراداً في هذه النقطة يتحدثون في إسرائيل بقوة وقلق عن لعنة العقد الثامن، عملياً يتحدث الجميع عن ذلك اليمين المتدين واليسار العلماني، بدأ الأمر مع نتنياهو ثم في مقالة لإيهود باراك مع أمثلة من التاريخ الأوروبي مثل توحيد ألمانيا على يد بيسمارك، وقبل نحو أسبوع حذر بينيت من انهيار الدولة من الداخل مستحضراً سقوط الهيكلين الأول والثاني. القلق الآتي من النواة مباشرة، ليس من عزلة إسرائيل ولكن من انفتاحها على المنطقة هذه المرة.
طفرة الغاز التي عززتها حاجة أوروبا ومحاولاتها التحرر من قبضة بوتين القاسية، أدخلت دولاً لم تكن تتوقع أو تحلم بالدخول إلى نادي المؤثرين من مصدّري الطاقة، لبنان على سبيل المثال الذي بات يرى في حقل قانا واحتمالات ما سيأتي به التنقيب لاحقاً، إشارة إلى إمكان خروجه من حالة الموت السريري الذي يعيشه اقتصاده، قارب نجاة سيصعد إليه الجميع على اختلاف نزعاتهم وطوائفهم ومعتقداتهم. الجميع في لبنان ينظرون نحو البحر هناك مقابل الناقورة حيث سيظهر المخلص، مرة أخرى، من "قانا".
الفلسطينيون أيضاً يحاولون الدخول إلى النادي، يطرقون أبواب "منتدى غاز شرق المتوسط"، هم أعضاء في المنتدى إلى جانب إسرائيل، ولكنها عضوية على غرار عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، يمكن مشاهدتهم وهم يحملون خرائط واتفاقيات وصوراً لمنصة قبالة غزة عليها مهبط لطائرات الهيلكوبتر، ويمكن سماعهم بصعوبة في فوضى الأصوات وهم يلوحون:
لدينا حقل... نحن أيضاً لدينا حقل.
يقع حقل "غزة مارين" على بعد نحو 36 كيلومتراً غرب غزة، وهو من الحقول الأولى التي اكتشفت في المنطقة في نهاية تسعينات القرن الماضي، وقد افتتحه الرئيس الراحل ياسر عرفات عام 2000، ولكن العمل فيه توقف منذ ذلك الحين. في عام 2019 وقع صندوق الاستثمار الفلسطيني اتفاقية لاستغلاله مع مصر، ولكن العراقيل التي يضعها الاحتلال تعوّق الشروع في العمل. عراقيل تشمل، على طريقة الاحتلال، كل شيء من مد الأنابيب - تشترط إسرائيل نقل الغاز عبر أنابيبها - إلى نقل الغاز - تشترط إسرائيل نقله إلى ميناء عسقلان وتسييله ثم توزيعه من هناك إلى الضفة وغزة - وهو ما رفضته الشركة صاحبة الامتياز، وما يتناقض مع اتفاق الشركة مع الجانب المصري.
في حالة استثمار "غزة مارين" ستتمكن السلطة من تغطية حاجاتها من الطاقة، كهرباء، وقود، غاز منزلي، لمدة 15 سنة في أقل تقديرات و25 في تقديرات أخرى، وتتخلص من عبء ما يزيد على المليار دولار تدفعها سنوياً لإسرائيل ثمناً لتزويدها بالطاقة، وتتخلص بالتالي من سيطرة الاحتلال وتحكمه في موارد الطاقة.
هناك حقل أصغر مشترك، "مارين 2"، اكتشف على الخط الحدودي بين غزة وأسدود، وقد باشرت إسرائيل باستنزافه مبكراً بعدما وضعت يدها عليه، وهناك من يقول إنه استنفد منذ عام 2012.
عام 2014 لاحظ صيادون فلسطينيون فقاعات تغطي مساحة واسعة قبالة المحافظة الوسطى في غزة، على مسافة قريبة جداً من الساحل لا تتجاوز الـ500 متر، تبين بعد الفحص أنها تشير إلى مخزون غاز في تلك المنطقة.
تمنع إسرائيل منذ عام 2000 أي تطوير أو استخراج للغاز الفلسطيني من حقل غزة مارين، بعدما استنفدت مارين 2، وقد ساعدها انقلاب "حماس" وانفصال غزة تحت حكمها على تكريس سياستها في حصار الحقل وعزله، بالطريقة نفسها التي قضت فيها على زراعة الزهور في القطاع، وهي تمنع بالسلاح الصيادين الفلسطينيين من تجاوز خط الـ6 أميال بحرية، رغم أن قانون المياه الدولي يعتبر المياه الإقليمية حتى 200 ميل بحري، "غزة مارين" تمكن مشاهدته من بعض مناطق غزة في الأيام الصافية على بعد 21 ميلاً بحرياً، مثل شبح بعيد ومستقبل مهجور.