ميناء غزة المرتقب بين الواقع والخيال وبصمات تركية

التقاط
حجم الخط

بقلم: د. إبراهيم يوسف عبيد

أستاذ العلاقات الدولية المساعد -جامعة الأقصى –غزة

يدور الحديث في هذه الأيام حول اتفاق تركي-إسرائيلي بموافقة من حركة حماس-الُمسيطرة على غزة منذ 14 تموز/يوليو 2014-يقوم على بناء ميناء بحري يربط قطاع غزة مع اليونان، بإشراف ومراقبة تركية حسب ما أوردته بعض وسائل الإعلام المختلفة من أجل التخفيف عن القطاع المحاصر منذ أكثر من ثمان سنوات.

يبدو الأمر بالنسبة لي كمتخصص في العلاقات الدولية، ومهتم بقضايا الصراع العربي-الإسرائيلي بأنه ضرب من ضروب الخيال، مع رغبتي الجامحة بأن يصبح الخيال واقعاً ملموساً، من أجل التخفيف عن المواطن الفلسطيني في القطاع الذي يعاني من حصار إسرائيلي غاشم وخانق.

فمشروع الميناء تم طرحه أو ربما الاتفاق عليه إبان العدوان الإسرائيلي الغاشم على القطاع منتصف العام 2014، خلال المفاوضات الغير مباشرة التي جرب بين الوفد الفلسطيني الذي ضم الفصائل الفلسطينية والمخابرات المصرية من جهة وإسرائيل من جهةٍ أخرى كشرط لإبرام هدنة توقف العدوان وقتئذ. وبعد مرور أكثر من عام ونصف على هذا الاتفاق بدأ الحديث مجدداً عن مشروع الميناء، لكن هذه المرة برعاية تركية، والسؤال المطروح لماذا يدور الحديث عن مشروع الميناء في هذا التوقيت، ولماذا ستتصدر تركيا المشهد، وهل هو قفز عن الدور المصري الذي ابرم هذا الاتفاق قبل عام ونصف، وهل إسرائيل جادة بالفعل في تنفيذ هذا المشروع، ولماذا تأخر التنفيذ؟.

إن المستفيد من هذا المشروع (في حال تم) هي ثلاثة أطراف لا رابع لها هي: إسرائيل، وتركيا وحركة حماس:

إسرائيل، تسعى لأن تقفز عن الدور المصري تجاه القضية الفلسطينية، عموماً، وقطاع غزه على وجه الخصوص لاسيما أن مصر هي من أبرم وصاغ هذا الاتفاق في حينه.

فإسرائيل تسعى إلى تغيب الدور المصري لتوسيع وتعميق دائرة الخلاف بين حركة حماس ومصر، لإدراكها أهمية القطاع بالنسبة لها، فمصر تعتبره جزءً من أمنها القومي؛ فتاريخاً كانت فلسطين وما زالت بوابة مصر الجنوبية في الحرب والسلم، فكثير من الأمم قديماً دخلت، وغزت، واستعمرت، وسكنت فلسطين انطلاقاً من هذه البوابة كـ (الهكسوس، والبطالمة وغيرهم)، وحديثاً دخلت الجيوش المصرية فلسطين عبر سيناء إلى غزه بقيادة إبراهيم باشا عام 1831م، وفي العام 1948م شارك الجيش المصري في حرب تحرير فلسطين بعد إعلان قيام إسرائيل، وبعد توقيع اتفاقيات الهدنة بين دول الطوق العربي، وإسرائيل في "رودس" عام 1948 خضع قطاع غزه للإدارة المصرية حتى العام 1967م. وبالتالي حرمان مصر من لعب دورها المركزي والتاريخي تجاه القطاع، مستغلةً في الوقت نفسه توتر العلاقات بين مصر وحركة حماس علة خلفية اتهام الأخيرة بالعبث بالأمن القومي المصري، وعدم تنفيذها لبنود المصالحة الوطنية مع حركة فتح التي جرى الاتفاق عليها في القاهرة اكثر من مرة، وكذلك انشغال مصر في حربها المستمرة ضد الجماعات المتطرفة في سيناء التي لم تحسم بعد، واعتباره أولوية قصوى بالنسبة لها (أي مصر) قبل الحديث عن أي ملف آخر.

بالإضافة إلى رغبتها في تعزيز تحالفها مع تركيا، من خلال الاستحواذ على أكبر قدر من العقود التجارية والعسكرية خاصة بعد توتر علاقاتها مع روسيا.

تركيا، تسعى تركيا من خلال هذا المشروع وفي هذا التوقيت إلى تحقيق جملة من الأهداف، منها:

التغطية على تورطها في الملف السوري، وتدهور علاقاتها مع روسيا.

قطع حالة الشك لدى حركة حماس بعد تسريب معلومات عن تفاهمات تركية-إسرائيلية تمت في سويسرا بين مساعد وزير الخارجية التركي " فيريدون سينيرلي أوغلو"، ورئيس الموساد الإسرائيلي الجديد "يوسي كوهين"، وإعادة الثقة للحركة بأن تركيا لا تزال على مواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية، ولحركة حماس، ورفضها لكافة أشكال الحصار الإسرائيلي، ورغبتها في تحسين أوضاع الفلسطينيين في غزة.

رغبة تركيا في استمالة الحركة وتطويعها نحو الحل السياسي، من خلال الدخول مع إسرائيل في مفاوضات غير مباشرة لهدنة طويلة الأمد، أو حول ملفات أمنية أخرى، وملف الجنود الإسرائيليين الذين تقول الحركة أنها اختطفتهم أثناء العدوان على غزة في صيف العام 2014م، على غرار المفاوضات الغير مباسرة التي رعتها تركيا في العام 2007 بين سوريا وإسرائيل.

تعويض خسائرها الاقتصادية والتجارية مع روسيا، والاستعاضة عنها بتعزيز التبادل التجاري، والمشاريع الاقتصادية، والمائية، والعسكرية مع إسرائيل، فتح أسواق حديدة لها في غزة من خلال هذا الميناء.

تعزيز دورها في المنطقة مستغلة ضعف النظام العربي، وانشغاله في أتون صراعاته الداخلية، وللتغطية أيضاً عن عجزها في الدخول للاتحاد الأوروبي، والتأثير عليه من خلال الاستعاضة عنه بلعب دور في دول إقليم الشرق الأوسط الذي يمثل أهمية كبرى بالنسبة لأوروبا.

حركة حماس، تحرص حماس من خلال هذا المشروع (في حال تم) إلى تحقيق إنجاز ملموس على الأرض يعيد الثقة المفقودة نسبياً بينها وبين المواطن في غزة، خاصة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير، وعدم قدرتها على الإيفاء بأدنى متطلبات العيش الكريم للمواطن الفلسطيني في غزه جراء استمرار الحصار وإغلاق المعابر، وعدم قدرتها على توفير رواتب لموظفيها في القطاع البالغ عددهم 50.000 موظف، وعدم قدرتها على مكافحة الفقر والبطالة التي ضربت أرقاماً قياسية في القطاع. وبالتالي البحث عن موارد جديدة يمكن أن تعيد الثقة للمواطن الغزي، وتساهم في تدفق راس المال، وفتح فرص عمل من خلال هذا المشروع. وبالتالي خروجها من أزمتها المالية الخانقة.

ثقة حماس بالدور التركي (المحمود حمساوياً) على اعتبار أن الحزب الحاكم في تركيا ينتمي إلى الإخوان المسلمين، وحماس نفسها خرجت من رحم الإخوان، على عكس الدور المصري الذي تنظر إليه الحركة بنوع من الريبة الشك خاصة، بعد الإطاحة بنظام الإخوان في مصر قبل عامين.

ويبقى السؤال، هل ستسمح إسرائيل لهذا المشروع أن يصبح واقعاً؟

باعتقادي أن مشروع الميناء لن يصبح واقعاً، إن أصبح فانه لن يعمر طويلاً، للأسباب التالية:

إسرائيل لا تثق بحركة حماس وتعتبرها تهديداً وجودياً لها، بالتالي عندما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل، فإن الأخيرة لن تثق بحليفها الإستراتيجي الدولي (الولايات المتحدة) حتى تثق بحليفها الإقليمي (تركيا).

يمكن للمشروع أن يتحقق (لفترة ما) إذا تعهدت حركة حماس، ووافقت على هدنة علنية طويلة الأمد مع إسرائيل، تقوم على حماية حدودها الجنوبية مع غزة، ومنع إطلاق الصواريخ وتدمير الأنفاق، ونزع سلاح الحركة، وهذا لن يقبله الجناح العسكري للحركة، الذي يمكن أن يقلب الطاولة على قيادته السياسية في حال وافقت على الشروط الإسرائيلية بضغط تركي. على اعتبار أن من يدير القطاع ويتحكم في قرارات الحركة هو الجناح العسكري.

ختاماً جرت العادة ألا تلتزم إسرائيل كدولة احتلال بتعهداتها، مستغلة تأييد الولايات المتحدة، والقوى الكبرى لها، ودفاعها عنها في المحافل الدولية، ناهيك عن عقدة الأمن الإسرائيلي التي لا تقبل المساومة أو التأجيل.