الحب والجنس في رواية
"خريف الانتظار"
حسن نعمان فطافطة
فاجأتني هذه الرواية التي صنفت ضمن "سلسلة أدب السجون" التي تصدرها وزارة الثقافة الفلسطينية، فقد قرأت مجموعة من الأعمال الأدبية الفلسطينية التي تتحدث عن موضوع الاعتقال، ولم أجد هذا الاسهاب في تناول موضوع الحب والجنس، الحب والجمال، المرأة والرجل، فالرواية تكاد أن تكون بحثا نفسيا للسجين الفلسطيني، والكيفية التي تفكر بها للمرأة الفلسطينية، المشاعر التي تحملها اتجاه الرجل، طاقتها على التحمل، نظرة المجتمع لها، نظرة الرجل لها ـ وإن كان مناضلا ـ صمودها وجلدها، وانهزام الاحتلال والمجتمع والرجل أمامها.
النص الروائي ينحاز للمرأة، يقدمها لنا على أنها تستحق أكثر مما نعطيها بكثير، فالرواية تمثل انتصار المرأة على كل الصعوبات والعوائق، وهزيمتها للرجل وللمجتمع وللاحتلال، فالمرأة هي العنصر القوي في الرواية بينما الرجل هو العنصر المنهزم من ذاته ومن الاحتلال ومن المجتمع، هي تتقدم إلى الأمام، منسجمة بين فكرها وفعلها، والأخرون يقولون ما لا يفعلون.
الرواية فيها كم كبير من الأمثال الشعبية المتداولة، مما جعل لغة الرواية تنساب بسهولة إلى المتلقي، فلا يجد فيها لغة مقحمة من قبل الشخصيات، فكل شخصية لها لغتها الخاصة، ونجد تعدد شخصيات الرواية على النقيض من النصوص الأدبية المتعلقة بالسجون والمعتقلات، حيث يكون هناك عدد محدود من الشخصيات، وأن وجدت عدد من شخصيات، تكون بمجملها نمطية، بمعنى، إما تكون مع أو ضد، معتقل أو سجان، لكننا هنا نجد شخصيات متعددة، السلبي كما هو الحال عند شخصية "خالد" والايجابي كما هو الحال عند شخصية "سامر" ونجد نموذج للشخصيات الانتهازية والوصولية كشخصية "سمير وناصر وسناء" ونجد أفراد الأسرة أيضا مختلفين، "أبو صابر" يختلف موقفه عن ابنه "صابر" "أبو عايش/أبو خالد" يأخذ موقفا متزنا في كافة المواقف في الرواية، ونجد "صابرة" التي ناضلت وانتصرت لكي تبقى أمينة لمبادئها وقناعتها المتمثلة بضرورة الصمود والانتظار لحين خروج "خالد" من المعتقل، لكي تتزوج منه، لكنها تكمل نضالها وتمردها على شهوتها الجسدية، وتتحدى المجتمع من جديد، وتقرر التخلي عن "خالد" بعد أن باع نفسه للانتهازيين، فتقرر أن تبقى بلا زواج، عانس، على ان ترتبط بشخص عاد إليها بعد عشرين عاما، جسدا بلا روح، بلا كرامة.
الرواية تتحدث عن علاقة عاطفية تقوم بين "خالد وصابرة" في جامعة بير زيت، يكون خالد علما/قياديا في الكتلة الطلابية، تكتمل العلاقة وتنضج رغم وجود معيقات من قبل "أحلام" التي أقام "خالد" علاقة معها في السابق، تتوج هذه العلاقة بقراءة الفاتحة، ويحدد الزواج إلى حين حضور "عايش" أخ خالد من السفر، يؤجل عائش قدومه بسبب صفقة تجارية، ويؤجل عقد الزفاف على أثر ذلك، يستمر خالد في نشاطه مع الكتلة الطلابية، إلى أن يكون مع صديق له في سيارة، يعترضها جيش الاحتلال، يقوم صديقه بإطلاق النار، يفر خالد إلى بيت "أبو عيسى" منزل رفيقته "سوسن" يقوم جيش الاحتلال بإلقاء القبض عليه، ويحكم بالسجن لمدة خمس وعشرون عاما، يتم انجاز اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير ودولة الاحلال، يدفع هذا الاتفاق بالأسرى إلى فكرة التحرر من السجن، لكن يصاب بعض المعتقلين بالخيبة ومنهم "خالد" الذي يتم استثناءه من الافراجات بسبب حمله هوية زرقاء، هوية فلسطينيي ال48، يستمر صابرة في بث الأمل لخالد بعد عملية أسر حزب الله لثلاثة جنود من جيش الاحتلال، لكن هنا أيضا تتكرر الخيبة عندما لا يتم اطلاق أي فلسطيني يحمل الهوية الزرقاء، يبدأ خالد بالبحث عن الطرق الملتوية/الملغومة لكي يفرج عنه، في المحاولة الأولى يفشل بسبب خداع ضابط المخابرات له، وفي المحاولة الثانية ينجح، بعد أن يكون قد أمضى عشرون عاما في المعتقل.
الذي ساهموا بدفع أتعاب المحامي "سمير وناصر" يعملون على اخضاع "خالد لهم، وتجير نضاله لصالحهم، من خلال "سناء" التي أكلت عقله بجمالها الأخاذ، وهنا تبدأ حالة من الصراع بين "خالد" من جهة وبين "صابرة" وأهل خالد من جهة ثانية، تحسم بقرار "خالد" العمل مع مجموعة "سمير" فتتخلى عنه "صابرة" وتحسم علاقتها معه بإنهائها. هذا العمود الفقري للرواية.
في الجهة المقابلة تقدم لنا الرواية العلاقة الناجحة بين "سوسن وسامر" اللذان ينجحان في تجاوز العقبات رغم تماثل حالتهما مع حالة "خالد وصابرة" ويكون السبب الرئيسي لاكتمال العلاقة وتحاوزها للعقبات من اعتقال الاحتلال "لسامر وسوسن" ومن اختلاف الدين بينهما لسوسن التي حسمت الأمر، وقطت الطريق على أي خطوة إلى الوراء.
المرأة
الكاتب يجعل من المرأة المحور الرئيسي في الرواية، فهي محرك الأحداث ومثير التفاعلات، ورغم وجود الرجل إلا أنه كان في المرتبة الثانية فيها، إن كان على صعيد الفعل الايجابي، أن على صعيد التأثير والفاعلية، فحتى عندما تمت الردة عند "خالد" كانت "سناء" هي العنصر الفاعل والمؤثر والأكثر أهمية في هذه الردة.
فالرواية تركز على عنصر الجمال وأثره على اثارة الشهوة الجنسية عند الرجل، وتتقدم أكثر عندما تناولت علاقة الجنس على الحالة النفسية الرجل والمرأة، في المقابل جعلت من المرأة "صابرة وسوسن" تقدمان الحب، الجمال، المبدأ على الشهوة والجسد والجنس، فالرواية قسمت الادوار بين الرجل المهتم بالجسد والجمال والجنس، في حين اعطت المرأة دور المهتم بالحب والجمال والمبدأ، فكانت تمثل اروح الصافية النقية، بينما الرجل مثل دور الجسد والشهوة والجنس.
سنتناول "سوسن" التي تألقت في تجاوز العقبات وأكدت نجاحها في كافة المواجهات التي خاضتها، ففي اثناء اعتقالها بعد أن دخل بيتها "خالد" هاربا من جيش الاحتلال، ونم القبض عليه في غرفتها، حاول المحقق الدق على هذا الوتر الحساس للرجل الشرقي، فهددها بإخبار خطيبها "سامر" المعتقل عندهم بهذا الموضوع لكنها أصرت على موقفها قائلة: "لم يكن عندي في البيت، أنتم من أحضره والتقطتم له صورا داخل البيت" ص104، وعندما هددها بمقابلة سامر لها حول هذا الموضع كانت تفكر بهذا الشكل: "آمل أن تكتحل عيني برؤياك يا نور قلبي" ص103، بعد أن تجاوزت هذا الأمر، "شعرت أنها صخرة من الصوان تستعجل مواجهة المحقق مرة أخرى اتعكس نشوة الفخر والاعتزاز التي علت صدر والدها هو يتحدث عما جسدته تلك الشبل ابنه الأسد" 104، نتوقف هنا عند هذا الحدث، ففيه من الأفكار ما هو خارج شكل تقديم الفكرة، الكاتب أرد التأكيد على أن كل ما حققته "سوسن" من قهر للمحقق يمكن في تجاوزها لمسألة/فكرة الشرف التي تمثل احدى العقد التي يتعامل معها العربي بشكل جامد ومتخلف، فهي رغم القبض على "خالد" في غرفتها وتحت سريرها، وهذا الامر كان يمكن أن يشكل لها احراجا كبيرا أمام المجتمع وأمام خطيبها المعتقل، لكنها استطاعت أن تقفز عن هذا المفهوم ـ الشرف ـ وتتقدم إلى الأمام وتتجاوز العقبات وتحقق الانتصار. فأهم ما في هذا المشهد دعوته لتخلي عن الجزئيات والتمسك بالكليات، التخلي عن الصراع/الخلاف الداخلي والتمسك بالصراع الرئيسي، تجاوز الأنا الفرد، والاهتمام بالمجتمع/الوطن، كل هذا سيجعل من طرفي المعادلة، الرجل والمرأة، يقفزان معا إلى الأمام ويتقدمان نحو الفرح الأكبر الانتصار على المحتل.
بعد هذه العبقة، تظهر أمام "سوسن" عقبة جديدة، خطيبها مسجون لمدة خمسة عشر عاما، فهو يعي بأن هذه المدة طويلة جدا إذا ما حسبناها من عمر الإنسان، فحدثها بهذا المنطق: " لا أملك الحق في حرمانك من أن تعيشي حياتك ما دامت هناك إمكانية لذلك، قدري خطه القاضي، لا مجال لتغيره، أما أنت فليس من العدل أن تنتظري كل هذه المدة وأنت تنهشين روح شبابك دون..." ص129، "سامر" يتكلم من باب حرصه وحبه لخطيبته، فيريد لها أن تستمتع بحياتها، وفهي تستحق أن تعيش كأي امرأة أخرى، تتزوج وتنجب وتكون أما، لكن "سوسن" ليست امرأة عادية، هي مثقفة، وتحمل مبادئ تجعلها تكمل ما بدأته حتى النهاية، فترد على هذا الكلام بقولها: "من أعطاك الحق لتقرر بشأن عواطفي ومشاعري، إذا كنت تنوي التخلي عني فهذا شأنك، بإمكانك قوله بوضوح وصراحة دون لف أو دوران، أما أن تدعي بأنك متيم، لكنك نضحي من أجلي، هذا ليس من شأنك، تخليك عني هو التضحية بي وليس من أجلي" ص129، بهذا المنطق الفلسفي استطاعت "سوسن" أن تحسم علاقته "بسامر" في مجال فيها إلا للاستمرار حتى النهاية، فالحب والمبدأ والفكرة والعمل المشترك والأمل والحلم كلها أشياء جميلة وتستحق أن نعمل من أجلها: "من قال لك بأن الحب لا يستحق التضحية يا استاذ سامر! الحب هو أكثر الأشياء التي يمكن أن نضحي من أجلها دون أن نشعر بالغبن، نشعر بمتعة التضحية ولذتها رغم الألم" ص129، فلسفة متعلقة بالحب والتمسك به، وتحويل الألم إلى متعة، تحويله إلى واجب، وقلب معادلة الحرمان من المتعة الجسدية إلى متعة ولذة روحية، فهي تطرح ضرورة التمسك بما هو فكري/روحي وترك ما هو مادي/جسدي، وقد أثبتت صواب فكرتها ونجاحها.
وتتغول أكثر سوسن في رؤيتها للحب، فهو عندها حب مجرد، لا يرتبط بواجبات وطنية أو سياسية، بل هو حب لذاته، فهو شيء مقدس بحد ذاته ولا يحتاج لأي محسنات أو اضافات، فالحب كائن متكامل لوحده قادر على خلق وتحقيق المعجزات، "إن إصراري على استمرار علاقتنا لا يأتي من منطق الإخلاص أو الوفاء لما قمت به من تضحية من أجل الوطن المجموع، وليس انطلاقا من شعور بالواجب الاجتماعي والإنساني، إنني أحبك أيها الحيوان وأموت في حبك، ومستعدة لانتظارك حتى آخر لحظة في حياتي" ص143، بهذه الكلمات تقدم "سوسن" فكرتها عن الحب، فهو حب مطلق، حب خالص، حب غير متعلق بأي أمور أخرى حتى لو كانت وطنية أو اجتماعية، وبهذا يكون الحب لوحده قادر على النمو والحياة والمواجهة وتحقيق الانتصار على كل المعيقات التي قد تنشأ.
كل ما سبق كان تعلق "بسوسن" وحبيبها "سامر" أما خالد وحبيبته "صابرة" فلها أيضا رؤيتها الخاصة عن الحب، فعندما يطلب منها "خالد" بعد الضغوط التي تعرض لها من أهله حول ضرورة قطع العلاقة "بصابرة" نجدها تخاطبه بهذه الكلمات: " أريد أن أركض حيث يأخذني قلبي، وقلبي يركض نحو سجن عسقلان ليعانق قلبا آخر يحمله أسمه خالد العلي" ص184، بهذه الكلمات استطاعت "صابرة" أن تحسم الصراع لصالح حبها، فلا شيء يقف أمام الحب، فهو قادر على الحياة والنماء رغم العواصف، من هنا نجدها تتقدم أكثر من "خالد" عندما دعته لكي يتجاوز الكبوة التي ألمت به بعد ما سمعه من أهله، فتكمل رسالته قائلة: " أريد أن تعود إلى غرفة سجنك، وتكتب لي رسالة مغايرة وطويلة أتدفأ عليها في الليالي الباردة" ص 184، بهذا الطريقة استطاعت أن تنقذ1 حبها وحبيبها من الموت، وأن تعيد الحيوية والإثارة والفاعلية لهذا الحب.
وبعد هذه لمعركة مع حبيبها وأهله، تنتقل إلى معركة جديدة مع أهلها، الذي يطالبونها بإنهاء العلاقة مع خالد، المحكوم عليه خمسة وعشرون عاما: "قلت لكم عشرات المرات، لن أتركه لو حكموه مئة عام" ص187، بهذا الاصرار والثقة تستطيع "صابرة" أن توقف الهجوم الشرس الذي شنه أهلها عليها، وأن تحسم معركتها بضرورة التوقف عن إثارة المنغصات عليها وعلى حبها الذي يحيا به وله,.
بعد أن يخرج "خالد" من المعتقل بعد أن يتم الاتفاق مع جماعة "سمير" ويبدأ في تغير مفاهيمه أتجاه الأحداث والأشخاص، ومن ثم ينقلب سلوكه من حالة المواجهة للفساد إلى حالة المشاركة فيه، نجدها أيضا لا تستسلم لهذا الواقع، وتبدأ معركتها ضد هذا الدخيل الغريب، فتقول لخالد هذه الكلمات: "أنهم ينفذون ما يفكرون به، أنت من ينفذ لهم ما يفكرون به" ص225، هذه الكلمات تؤكد استمرار خوض المعركة من قبل "صابرة" فهي ما زالت مؤمنة ومخلصة لحبها ولحبيبها، وعليها أن تدافع عنه حتى الرمق الأخير، فلا شيء ـ خارجي ـ يمكن له أن ينهي هذا الحب، من هنا نجدها تخوض غمار هذه المعركة الشرسة التي لم تعدها من قبل.
مشاعر المرأة
ما يحسب لهذا العمل أنه يحدثنا عن مشاعر المرأة وما تحمله من إحساس مرهف أتجاه الحب، أتجاه رجلها، فهي تطرح صور وكأن الراوي هو المرأة ذاتها، وليس "حسن فطافطة" وهذا يحسب له، فقد استطاع أن ينجح في تقمص دور المرأة وأن يقنعنا بأنها هي من يتكلم وليس هو، الكاتب، هناك العديد الصور قدمها لنا الكاتب، تبين تبنه لموقف المرأة وانحيازه لها، فالرواية بمجملها تبين قوة المرأة وانتصارها، وتراجع الرجل وانهزامه، من هنا يمكننا القول بأننا أمام عمل يمجد الأنثى ويقدمها بصورة أقوى واكثر بهاء من الرجل.
"سأرى حبيبي عما قريب رغم حقد الحاقدين، ونكاية بهم سأترك المجال لشفتي كي تتمرغ مع شفته حد الثمالة، لا داعي للخوف والتهيب فالحياة قصيرة وأقصر مما نتوقع" ص20، تمرد على مفهوم المرأة الشرقية، فهي كما كانت متمردة على مجتمعها الذي حاول أن يوقف حبها ‘ند حد معين، نجد سلوكها يحمل أيضا شكل التمرد على مفاهيم المجتمع، خاص ذلك المتعلق بضرورة أن تكون المرأة خجولة أمام حبيبها، فهي هنا تتجاوز العرف والمفهوم الدارج عن المرأة.
وتحدثنا أحلام عما تحمل من شعور بعد أن تركها "خالد" لكي يرتبط "بصابرة" فتحدثنا عما بداخلها بهذا الشكل: "أنساك، وقد أغويتني بفم عذب الكلام رقيق، وتركتني أتخبط في بحر من الظلمات الحالكة، إن كان من الغرق بد، فلن أغرق وحدي، ما دامت غير قادرة على امتلاك قلبك، فلن أسمح لأخرى أن تمتلكه" ص44، رغم أن هذا الموقف يأخذ الاتجاه سلبي في أحداث الرواية، إلا أنه يشير إلى فاعلية المرأة وعدم تسليمها للأمر الواقع، وكأن الكاتب بهذا الحدث أرد أن يؤكد دور وفاعلية وحيوية المرأة، اتي لا تسلم ولا تيأس عندما يتعلق الموضوع بحبها أو برجلها، فتكون كاللبؤة التي تدافع عن أشبالها.
الحب والجنس
الرواية ليس فاضحة جنسيا، فهي محتشمة وتكاد أن تكون عذرية، فلم تتناول مشاهد جنسية، لكنها تطرح أفكارا جديدة حول مفهوم الجنس والحب، وتبين لنا الفرق بينهما، فحاجة الجسد للجنس لا تقل أهمية عن حاجة الروح للحب، فهما يكملان بعضهما، ولا يمكن لإنسان أن يستغني عنهما، من هنا الرواية تقدمنا أكثر من المنوع، وتصارحنا بضرورة تفهم هذه المشاعر والغرائز الكامنة فينا.
عندما تناول الكاتب هذا الموضع أدخل نفسه كسارد للأحدث في توضيح وجهة نظره، فيقول لنا على لسان "صابرة" : "إذا كان بلوغ النشوة الجنسية يتحقق مع انتفاض الجسد الأنثوي مصحوبا بصرخات اللذة، فإن نشوة الحب الحقيقي، وناره المشتعلة لدى الجنسين لا يمكن بلوغها دون أن يلتحم الجسدان ليرتويا من لذة الحب المسكوب جسدا وروحا" ص64، فهنا يوضح لنا الكاتب رؤيته حول كيفية الحصول على النشوة من الجنسي، وايضا يبين لنا أين يكون الحب في هذه الأثناء، فالجنس والحب يكمل بعضهما البعض، ويأثر الأول على الثاني، والثاني على الأول.
ويحدثنا الراوي عن المرأة التي سجن زوجها وبقية وحيدة، تتعايش مع الحياة بطريقة رتيبة، فيصف لنا حالها بهذا الشكل، "تحتاج إليه هو صاحب التحف وليس التحف ذاتها، احتاج لعشرات المؤشرات كي يمسح طبقة الغبار التي كانت تغطي حقيقة ما يجري من تحولات في علاقتها نحوه، ... كل شيء حولها يذكرها بالغيرة والحسد على من يعيشون حياتهم مع نصفهم الآخر جسدا وروحا، فيما هي تمضي لياليها الباردة وهي تتقلب على السرير وحدها تحاول أن تضع من فائض اللحاف جسدا وهميا ساعدها في تخفيف آلام الوحدة" ص134و135، كل عبارة نجد حاجة الجسد للجسد، حاجة الروح للجسد، فرغم أن الراوي كنت محتشما في قوله إلا أننا نجد وضوح صريح للفكرة التي أراد طرحها، وهذا الشكل من الطرح يتناسب ومكانة زوجة الأسير، فالروي تعمد أن يتحدث بالتورية، لكن الفكرة وصلت وبوضوح، وهذا الشكل من الطرح يؤكد حرص الراوي على اختيار الشكل المناسب للحديث عن شخوص الرواية.
تحدثنا "صابرة" عن مشاعرها عندما تجد "خالد" الذي انتظرته عشرون عاما متعلق بذات الشعر الأشقر "سناء" فتوضح لنا الفرق بين الحب والجنس، الفرق بين حاجتها للحب وللجنس، فتقول لنا: "سأدوس على قلبي أمام كرامتي، لن أسمح لهذا الحب أن يهين كرامتي ويذلني، لا يمكن للحبيب أن يهين حبيبته ويذلها، في الحب تتجلى كرامة الإنسان في أبهى صورها، لكن إذا ما اجتمع الحب مع الذل والإهانة، فهذا يعني الاستغلال، عندها سيتحول الحب إلى جحيم" ص258، فهوم الحب هنا كان يحمل عند "صابرة" حاجة الجسد، حاجتها للجنس الذي انتظرته عشرين عاما كاملة ولم تعرفه، لا من قبل "خالد" ولا من غيره، لكن حالتها النفسية، احتراما لها ولصمودها وتجلدها أمام كل ما مرت به، كان لا بد من جعلها تتحدث بطريقة التورية، بطريقة محتشمة، إلا أننا نستطيع أن نفهم ما تريده، هي تتحدث عن الحب، والمقصود الجنس، حاجة الجسد وليس الروح، فهي أخذت كفايتها من الحب المجرد، لكنها محرومة من الجنس، من لذة الجسد، فكل ما تقوله متعلق بقدرتها على الاستمرار بحرمان جسدها مما يريده، فكما حرمته لمدة عشرين عاما، تستطيع أن تستمر بهذا الصوم إلى أن تجد من يستحق أن يتمتع بهذا الجسد ويمتعه.
تفهم "صابرة" لحاجة الجسد للجنس كان واضحا عندما حدثتنا عن علاقة "خالد وسناء" فتقول عن تلك العلاقة ما يلي: "اعتقدت أنه سيستيقظ من شهوته الحيوانية تجاه سناء ولن يحتاج إلى وقت طويل حتى يدرك أن الحب أكثر من تفريغ شهواني لطاقة جنسية مكبوتة" ص279، هنا تحدثت "صابرة" عن الجنس بصراحة، فهو متعلق "بخالد" الرجل المحروم من الجنس، وليس بها هي المرأة الشرقية الخجولة، فعندما تحدثت عن ذاتها استخدمت كلمة الحب للتورية، ولكنها هنا استخدمت الكلمة المناسبة والصريحة، "الجنس، الشهوة الحيوانية، الحرمان" وهذا يؤكد ما قلنا عنها آنفا.
تأكيدا على حاجة الجسد للجنس، وتقديم هذا الجنس على الحب، خاصة بعد أن يعاني الجسد من الحرمان لمدة طويلة، يحدثنا الراوي عن هذا التفهم بقولها عن "خالد" المنغمس مع "سناء" في علاقة جسدية أكثر منها روحية بهذا الكلام: "فكر أن ينهي الألم الذي يعيشه، ويطرح على سناء الزواج العرفي أو أية طريقة سرية ما دام غير قادر على الانتظار لإطفاء النار التي يشتعل بها جسده، ... الجو الشاعري الذي يعيشه في تلك اللحظات، وجوعه المزمن إلى الجنس، جعله قاب قوسين أو أدنى من طرح ما يجول في ذهنه على سناء، ص 278، كل هذا الكلام يؤكد حاجة الجسد للجنس، فأجساد البشر خلقت وفيها غريزة الجنس ولا يمكن لنا إخفاء هذه الشهوة/الحاجة، وعلينا أن نبحث عن تلبية تلك الحاجات وعدم السكوت/تجاهلها، لأن ذلك يعني الانحراف والسير بطريق الخطأ.
والجمال والجنس
لا شك ان هناك علاقة بين الجمال والحب والجنس، فالجمال يكون مقدمة للحب، ومن ثم للجنس، ويمكن أن يكون الجمال موحي بالجنس دون المرور بمرحلة الحب، بمعنى أن الجمال يثير الشهوة الجنسية عند الطرفين، دون الوقوع بحالة الحب، التي تتسم عادة بالرومنسية والعذرية، على النفيض من علاقة الجنس والشهوة الجسدية.
"صابرة" توضح لرؤيتها حول الحب "الجنس" والجمال بهذا الشكل: "مشكلتك أنك تبحث عن الجمال الحسي في المرأة، لكن عليك أن تدرك جيدا أن هناك مسافة طويلة بين أن تحب امرأة لذاتها وبين أن تحبها لجمالها الحسي، لحو عينيها، لصدرها الممتلئ بعيدا عن نواة القلب، يبقى تأثير الجمال الحسي على استمرار العلاقة وترسيخها مرهونا باستمرار تفوق هذا الجمال الحسي وعدم بروز جمال يزاحمه على مكانه ويدفعه نحو الزاوية، فيما يبقى الحب الحقيقي هو الذي يعيش هناك في القلب، ويوزع نوراه على ما تبقى من مفاتن حسية تجعل المرأة عادية الجمال في نظر حبيبها أكثر روعة وجمالا من ملكات جمال العالم" ص140، من خلال ما تقدم يمكننا أن نفصل بين الحب الناتج عن تعلقه الجمال، بين الحب الناتج عن الحب، فالأول عرضة للموت والاندثار، لأنه مرتبط بشيل قابل للزوال والفناء او التشويه، بينما في حالة الحب لمجرد، يبقى مستمر إلى نهاية العمر لأنه مرتكز على ذاته وليس على عناصر متغيرة ومتبدلة.
هذا الكلام متعلق "بخالد" تحديدا، فهو من ترك الحب المجرد إلى الحب المرتبط بالجمال، من هنا نجده بهذا الوصف عندما يتعلق الأمر "بسناء" التي صعقته بجمالها الأخاذ،"... أنقطع الصوت الأنثوي الغنوج الذي أصبح زاد يومه، أصابه حالة من الهوس أفقدنه القدرة على التركيز والتفكير في أي شيء غير رغبته الجامحة في البحث عن وسيلة توصل صوتها إلى أذنيه" ص264، تعلق حب الإنسان بالجمال لوحده يجعله لا يرسوا على بر، بمعنى أنه كلما رأى جمال أخذته غريزته نحوه، دون مراعاة لأي ارتباطات أو أخلاق تجعله يتريث/يفكر قبل التقدم باتجاه هذا الجمال، فيكون الجمال هو المحرك للغريزة وليس للحب، الحب يمكن أن يضحى في سبيله، بينهما الجمال الباعث على الإثارة والشهوة الجسدية يحول الإنسان إلى بهيمة، تسعى لتفريغ غريزتها الجنسية، ولا يمكن السيطرة عليه لتعلقه بالجسد، بالجنس، وليس له علاقة بالروح، بالحب.
"صابرة" توضح لنا حالة "خالد" الباحث عن الجمال بهذا الشكل: ".. والأخطر أنك أحببت صابرة بنت العشرينات، أما صابرة التي أمامك اليوم فيبدو أنها أصبحت جزءا من الماضي" ص277، بهذا الكلام يمكننا أن نتفهم الفكرة التي أردنا الراوي أن نتفهمها، كل ما هو مرتبط بالزمن سيفنى وينتهي، بينما كل ما هو متعلق بالحب، بالمبدأ بالفكر النقي، يبقى حيا إلى الأبد.
الرجل والمرأة
لكي لا نظلم النص الروائي نذكر بأن كل ما جاء فيها يتحدث عن علاقة بين رجال ونساء، الرجال دائما كانوا معتقلين، ومحكومين لفترات طويلة، بينهما النساء كن طليقات، يربطن أنفسهم بالرجال المعتقلين، وكأن هناك سجن لهم أيضا من خلال سجن رجالهن، وحرمانهن منهم، "فسامر" معتقل، وكان قد تم اعتقال "سوسن" لكن لفترة وجيزة، وتم اطلاق سراحها، بينما استمر "سامر" يعيش في غياهب السجن، وهذا الأمر أيضا ينطبق على حالة "خالد وصابرة"، الأول معتقل وثانية طليقة.
الراوي أصر على رسم صورة تأثير المعتقل/السجن على كلا المعادلة، الرجل والمرأة، فالأول مجبر، والثاني مخير، لكنه في ذات الوقت يخضع لقوانين وأعراف وعادتها تجله أسير /معتقل لتلك المفاهيم الاجتماعية، وكأن السجن ـ فعليا ـ يكون للطرفين وليس لطرف واحد، وهنا تتوضح لنا الحالة/المأساة الإنسانية التي أرد الكاتب طرحها، حرمان الأنسان، المعتقل والطليق من الحب، من الجنس، من الحصول على شهوته، يبدأ الراوي بالحديث عن تلك المرأة التي تجاهل ذكر أسمها، والتي كان زوجها معتقل فيقول لنا عن معاناتها: "كانت تتدفأ على رسائل زوجها واللحظات العابرة التي قضوها معا في مستهل حياتهما المشتركة قبل الزواج وبعده، كانا يتبادلان في الزيارات كلمات الحب والغزل العذري، مع انتهاء الزيارة يعودان إلى مربع الحرمان، هي تقهر شهوتها لحضن الزوج وضحكة الابن بإرادتها، فيما هو لا يملك خيارا غير ذلك" ص133، بهذا المشهد يتأكد لنا بأن الاعتقال لأحد الطرفين يعني اعتقال كلاهما معا، فهما يعيشان عين الحرمان والمأساة، ولا سيمح لهما، بإرادتهما أو بالقوانين أن يمارسان حقهما بالتمتع مع بعضهما البعض.
وما يحسب لهذه الرواية أنها تطرح موضوع المرأة متوازيا مع موضوع الرجل، فكلاهما يأخذان عين الأهمية والتناول في الرواية، فلا يجعل من الأنثى مجرد كائن جامد لا يتفاعل أو يتأثر بما يجري، بل هي تأخذ أهمية وعناية من الراوي أكثر من تلك التي يعطيها للرجل، من هنا نجده يحدثنا عن زيارة "صابرة لخالد" في المعتقل بهذا الشكل، "جاءته مهرولة وتعابير الفرح تتراقص في عينيها، مدت أصبعين من يدها اليمنى عبر الشبك ثم حررت شفتيها من خجلهما وتركت لهما حرية مداعبة شفتيه فحصلا على قبلة حارة شاركهم فيها الشبك" ص183، الراوي أرد من خلال هذا المشهد التأكيد على حيوية المرأة، فهي من تم وصفه في المشهد بينما كان الرجل يمثل المفعول به، وما قامت به من تجاوز للعرف الاجتماعي يمثل فعلا تحرريا تتحدى فيه المجتمع وما يحمله من أفكار عن المرأة.
الفعل المتمرد لم يقتصر على المرأة وحسب، بل أنه يطال الرجل أيضا، من هنا نجد "سامر" يتجاوز العرف كما فعلت "صابرة" ويقوم بتقبيل "سوسن" وعناقها في هذا المشهد، "تلقفها بعد أن أزاح حازم من طريقه، ضمها بقوة بين ذراعيه، غابا في احضان من الصمت الممزوج بأنفاسهما المتلاصقة، أنتهى بقبلة طبعها على شفتيها" ص199، بهذا المشهد نجد حاجة الرجل للحب، للجسد المرأة فهو بحاجة ملحة لهذا الجسد، لهذا الكائن، من هنا يتم يتجاوز العرف والعادة إلى إبداء الرغبة وإظهار المشاعر على طبيعتها بعيدا عن القيود.
الرجل
الرجل في الرواية كان في المجمع أضعف من المرأة، وهي من كانت تمده بعناصر القوة والصمود، وتعيده إلى مواقفه المبدئية، هذا الأمر حدث مع "سامر" خطيب "سوسن" ومع "خالد" خضيب "صابرة" الذي أصر على الاستمرار في تراجعه إلى أن وقع في الردة.
بداية الانحراف كانت عندما أخذ "خالد" يفكر بنفسه فقط، فتعاون مع المحامي الذي كلفه "سمير" بالقيام باستئناف الحكم الصادر بحق "خالد" وكان هذا الأمر يتطلب كتابة تقرير من ضابط المخابرات المسؤول عن السجن، يزكي فيه "خالد"، وبعد أن يفشل تخفيف الحكم في المرحلة الأولى يعيد الكرة مرة ثانية وينجح في اصدار قرار ينهي فيه فترة السجن المتبقية بحق "خالد".
الانحراف يستمر عند "خالد" خاصة بعد أن كانت "سناء" تلهب غريزته وشهوته الجنسية اتجاهها، من خلال جهاز خلوي تم تهريبه إلى خالد بطريقة ما، فبعد خروجه تستمر اللقاءات بينهما إلى أنم تصل إلى حسم أمر "صابرة" والتخلي عنها لصالح "سناء" وجماعتها الانتهازية، وهكذا يسقط "خالد" الذي رمى خلف ظهره سجن عشرون عاما ونضالا طويلا قبل الاعتقال، لينغمس في الواقع المزري الذي تشكل بعد أن تفشى الفاسد واتخذ الوصوليون والانتهازيون مواقع مهمة وحساسة.
سنحاول إضاءة الناحية النفسية التي مر بها "خالد" فهو يمثل حالة تستحق التوقف عندها، ليس لتبرير سقوطه، بل لمعرفة وتحليل الأسباب التي ادت إلى هذه النهاية البائسة.
بعد أن يتم الافراج عن الاسرى ويستثنى هو لحمله بطاقة الهوية الزرقاء الإسرائيلية، يبدأ يفكر بطريقة غير سوية، فيضع أمامه مشاعره وغريزته في المقدمة ويبدأ يفكر بها "نفسي ارتمي في حضنك بعد ثواني، لكن الرغبة شيء والواقع شيء أخر" ص206، بهذا المشاعر المندفعة والحارة يكون السجن/المعتقل يقف حائلا دون تحقيق رغباته الغريزية والروحية، وكأن هذه المشاعر كانت هي التي تسببت في عملية التقهقر التي وقع فيها، فحاجته لجسد، لأنثى، للجنس، العاطفة والميل للمرأة كلها جعلته يتقدم من الهاوية، هاوية الغريزة وتلبية حاجاته الجنسية، يتدخل "سناء" بصوتها الأنثوي المثير، الذي ينمي تلك المشاعر ويدفع بالغريزة نحو الأمام، فيبدأ يجتر صوتها، فهو المنفذ الوحيد نحو الاشباع جوعه نحو المرأة، "لصوت سناء الانثوي الغنوج دور اساسي في تنشيط خلايا الجنس المكبوتة لدى خالد، دفعته للبحث عن اللذة الجنسية في سماع صوتها الذي بات يبحث عنه بطريقة هستيرية لفتت انتباهها، انساقت مع رغباته، اخذت تصعد لهجته حديثها الدافئة له" ص262، الراوي لم يقدم بأن علاقة "سناء" كانت مرسومة من قبل، لكن نحن نستشف هذا التخطيط مسبقا، عندما كان يتغيب "سمير" لأسباب واهية ويجلها تتحدث نيابة عنه مع "خالد" .
بعد هذه المكالمات يبدأ خالد في يعيش حالة من الصراع، الصراع بين امرأتين، "صابرة" التي تمثل الحب العذري، وسناء التي تمثل الجمال والشهوة والجنس والمتعة، فيبدأ التفكير بهذا الشكل، " يشتهي سناء، ولا يريد أن تطرد صابرة من قلبه وحياته، يشعر بحب الواجب تجاه صابرة، لكنه لا يريدها أن تطرد صوت سناء الذي يشغل شهوة الجنس في جسده" ص264، من الطبيعي أن لا يكون الانحراف يوصل بمرة واحدة إلى الحضيض، بل يتقدم خطوة خطوة، إلى أن يكتمل ويقع صاحبه، هذا الشكل من التفكير يحمل في طياته نواحي ايجابية، فمازال الضمير حي، ويعمل على دق ناقوس الخطر، وعلى صاحب الشأن أن يتخذ الخطوة الصحيحة، فهو من يتحمل نتيجة قراره.
يتجاهل "خالد" هذا الصوت ويلبي شهوته فيرد على كل المحاولات التي تمت بينه وبين "صابرة" بهذه الكلمات "من حقي أن اعيش حياتي كما اريد، حتى أن الشرع أعطاني الحق في أن اتزوج مثنى وثلاث ورباع" ص274، بهذه الكلمات الجامدة والمتخلفة يكون "خالد" قد أنقلب رأسا على عقب، ولم يعد له صله بماضيه، ويقرر أن يميل كل الميل نحو الجمال والشهوة، ويطلق الحب والمبادئ، فيكون بهذا السلوك الجديدة المتناسب مع الواقع ومتطلبات المرحلة الجديدة، "ساعتين من حياته قضاها معها، اختلط فيها الأكل الشهي، مع المشروبات الروحية التي تنعش الروح، الحديث الدافئ الذي ينبعث مع صوت كلماتها رائحة الشهوة التي تشعل حواسه،.. يطرح على سناء الزواج العرفي أو أية طريقة سرية ما دام غير قادر على الانتظار لإطفاء النار التي تشعل بها جسده، شعور يفقده القدرة على الانتظار حتى الانتهاء من معاركة في مواجهة صابرة ووالديه" ص278، بهذا يكون "خالد" قد وقع فعليا، ماتت روحه، لكن جسده حاضر وموجود، ولم يكن اعلان موت "خالد" بالنسبة "لصابرة" يحتاج إلى وقت اضافي، فهي تقرر أن يموت خالد وينتهي من حياتي، غير عابئة بما سيقال عنها المجتمع.
الامثال
من السمات الجيدة في هذه الرواية تناولها لعشر امثال يم تناولها على لسان شخصيات الرواية، وهذا الأمر يقرب لغة الرواية من المتلقي، ويجعله يشعر بإنسانتها وقربها منه، فهي ليست غريبة عنه، وكما أن ذكر هذه الامثال يعد احياء لها وترسيخها في ذاكرتنا، "بتقدرش للحمار بدك تفش غلك في البردعة" ص15، "على هامان يا فرعون" ص26، "في آذار مرة شمس ومرة أمطار" ص41، "دخول الحمام ليس مثل الخروج منه" ص53، "في التأني السلامة وفي العجلة الندامة" ص68، "المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين" ص76، "الصبر صبر ساعة ولا ألم كل ساعة" ص99، "كل تأخيرة فيها خيرة" ص172، "لا كرمة لنبي في وطنه" ص253، كل هذه الامثال خدمت لغة الشخوص، وقربت النص من المتلقي، وأيضا وضحت الفكرة أكثر.
الرمز
الرواية تكاد أن تكون واقعية، تمس الحالة التي يعيشها المعتقل والمحيطين به، لكن الكاتب خرج عن الواقعية الحدث، وأرد أن يطفي على النص شيئا من الرمز، فجعل نهاية الرواية بهذا الشكل، "وجدت نفسها تخاطب قضاء القرية الضيق رغم سعة المدى الممتد أمامها حيث أضواء مباني الغرباء الشاهقة التي شيدوها على أطلال أرض كانت يوما اسمها فلسطين، وتخشى أن تضيع كما ضاع حبيبها" ص285، نهاية تجعل المتلقي يتوقف ويتأمل الواقع الذي وصلت إليه فلسطين وشعبها في ظل وجود احتلال يقضم الأرض، وانتهازي يقتل روح الإبداع والعطاء في الناس.
الاحتلال
مسألة طبيعية وضرورية أن يتناول الكاتب جنود الاحتلال والطريقة التي يتعاملون بها مع الفلسطيني، فهم سبب كل البلاء والحرمان والجوع الجنسي والروحي الذي حصل لشخصيات الرواية، فهو يتدخلون في كل كبيرة وصغير في هذا الوطن، ويتعرضون لكل إنسان، فهم الغصة التي تنغص على الفلسطيني حياته، وهم الموت الذي يطارده أينما كان، وهم النقيض، العدو، فنجد هذا العدو يقتحم الجامعة ويمنع الدراسة فيها، "انتهت الثالثة بمحاصرة الغرباء لها كونها الأقوى، تم إخراج المدرسين والطلبة من ممر إجباري" ص55، ويقومون أيضا باقتحام المنازل واعتقال الناس من بيوتهم، " داهم جنود العدو بيت أهلي وأخذوا خالدا وسوسن معهم" ص71، لكن الاحتلال لا يكتفي بما يقوم به، به نجده يهدد بقتل أي شخص يقف في وجهه، لا يلبي مطالبه، "ـ إذا لم تعودي مكانك سأقتل لك هذا المخرب الصغير.
ـ قل لي أين خالد وإلا سأطلق النار على رأسك" ص77، هذا الكلام كان موجها لطفل صغير، فهنا يتم انتهاك حقوق الطفل بالإضافة لحقوق الإنسان.
وبعد أن يتم اعتقال "خالد وسوسن" يتعرضا أثناء التحقيق لأبشع وأسفل الأساليب لنزع الاعتراف منهما، فنجد هذا الكلام البذيء من ضابط التحقيق: ""قم يا مومزير" أنهض يا ابن الزنا!!" يستخدم الراوي اللغة العبرية ثم يترجمها لنا لكي نعرف بأن أصحاب هذه اللغة يتماثلون بقذارتهم مع لغتهم القذرة، فاللغة والأشخاص يمثلان القذارة والسفالة.
وعندما يتم ضرب رأس خالد بباب السيارة من قبل جندي الاحتلال، نجد هذا الجندي يكذب ويغير الحقيقة أمام الطبيب الذي لا يقل عنه عنصرية،
""إيخ زي كرا" كيف حدث هذا؟
"دفاك إت هروش شلو بديلت هموخنيت" ضرب رأسه بباب السيارة" فهم خالد كلامه فكذبه قائلا للطبيب:
ـ هو الذي ضرب رأسي
ـ "تشوك يا شكران" أسكت يا كذاب" ص94، إذن الاحتلال يمارس الكذب بالإضافة إلى كل الأفعال المشينة التي يقوم به بحق الفلسطيني، فهو لا يتوانى عن استخدام كل ما هو مضر ومؤذي للفلسطيني.
الاحتلال لا يوفي بوعده، ويعمل على تخريب النفوس والعقول وتشويه كل ما هو جميل في الجغرافيا وفي الإنسان الفلسطيني، هو موجود فقط لهذا الأمر، ومن خلاله يمكنه الاستمرار في الهيمنة على الأرض والإنسان. من هنا نجد ضابط المخابرات يؤكد "لخالد" أنه قد كتب تقريرا يزكيه فيه أمام محكمة الاستئناف، لكن عندما تنعقد الجلسة لا يجد القاضي هذه التزكية، فيقرر أن يهين "خالد" أكثر ويجعله يندفع أكثر نحو الهاوية من خلال قوله: "أن ماضي السجين الإجرامي، واستمرار سلوكه التخريبي داخل السجن يدفعنا إلى اتخاذ قرار برفض طلبه بتخفيض مدة حكمه" ص236، من ضمن سياق النص يتأكد لنا بأن "خالد" بدأ في عملية التحول الإيجابي اتجاه الاحتلال، لكن الاحتلال يريد أن يمسخ/يهين/ينتقم من خالد أكثر ويتأكد بأنه فقد كل القيم، من خلال جعله يعود إلى ضابط المخابرات ويطلب منه التقرير مرة ثانية، الذي تعامل بخبث ومثل دور الغافل البريء، "ماذا تقول؟ لقد بعثت التقرير قبل اسبوع من الموعد المقرر للنظر في ملفك من قبل لجنة الافراجات!
... ربما حدث خلل ما، سأفحص الموضوع.
في اليوم التالي جاءه ضابط الاستخبارات معتذرا، اكتشفت أن المكتوب قد نسيته على الطاولة" ص243، فهنا يتأكد لنا بأن الاحتلال يتلاعب بالمعتقل، وأنه يريد منه أن يكون تحت أمرته، إن كانت بطريقة مباشرة أم عن طريق الآخرين، لكن السجين يكون فعليا يقوم بما يرده الاحتلال.
الوقت
بما أن الرواية تتحدث عن الاعتقال والسجن والحب، فلا بد أن يكون وصف الوقت بالتخاذل والوقوف ضد الأنسان، أن كان في حالة الحب أو في حالة السجن، فعندما يكون تحديد موعد الزفاف بين "صابرة وخالد" متعلق بحضور شقيقه "عياش" نجد الوقت بهذا الوصف، "من سيطفئ نار قلبه المشتعلة؟ ماذا سيقول لصابرته التي تتمنع عنه، فيما قلبها يحصي عدد النبضات المتبقية لها حتى لحظة التحام الجسدين نارا وشهوة" ص67، فهنا كان الوقت ثقيل جدا على الحبيبين، ولا يلبي الحد الأدنى لما يريدانه، فهو يقف حائلا دون تلبية مطلبهما ورغبتهما في الالتحام الجسدي.
وبعد أن يتم اعتقال "خالد" نجد الوقت بهذا الشكل، "مكث في السيارة دقائق كأنها نهار كامل" ص93، وعندما كانت خالد غارق في ظلام السجن نجده يعاني من رتابة الوقت وثقل الزمن "الدقائق تزحف ببطء كسلحفاة عجوز" ص160، فذكر الدقائق يشير إلى حجم الضغط الواقع على الإنسان، فالدقائق لا تعني شيئا لمن هم يعيشون حياة عادية، لكن نجدها ثقيلة وتساهم في زيادة الضغط على الإنسان المعتقل.
وبعد أن يصدر قرار الافراج عن "خالد" يتحول الزمن إلى متآمر عليه، "ساعة من الزمن كأنها دهر، قضاها خالد في غرفة الانتظار" ص244، فهنا لم يكتفي الراوي بهذا الوصف بل قدم لنا إضافة جديدة تبين لنا كيف يتعامل الإنسان المعتقل مع الوقت، "ستة آلاف وخمسمائة ليلة في كفة واحدة، وهذه الليلة في كفة" ص243.
قبل الانتهاء من الرواية نشير إلى بعض الهفوات التي وقع فيها الكاتب، عندما لم يوضح لنا الكيفية التي حل بها "سامر وسوسن" مسألة اختلاف الدين بينهما، علما بأنها من المسائل المهمة جدا في حياة المجتمع.
كما أنه لم يفسر لنا كيف كان خالد من سكان قرى رام الله ويحمل الهوية الزرقاء.
الرواية من منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية رام الله، سلسلة أدب السجون، الطبعة الأولى 2010 .