ذهب العام 2015 إلى غير رجعة وربما دونما وداع من قبل ملايين البشر الذين اكتووا بناره وعاشوا في بلاطه أياماً وأوقاتاً صعبة، وعلى رأسهم الفلسطينيون الذين شهدوا ظروفاً اقتصادية بالغة التعقيد، فضلاً عن التغول الإسرائيلي الذي "تجاحش" وأنتج رد فعل فلسطينيا تكون بالهبة الشعبية.
الانقسام الداخلي ظل حاضراً في العام 2015 بقوة، ولم تحدث أي اختراقات سياسية من شأنها أن تريح المشهد الفلسطيني المتشنج ولو قليلاً، وعلى المستوى الداخلي ظلت العلاقات الفلسطينية البينية تدار بالحرد والعصبية الفصائلية.
الفلسطينيون في غزة تشتت جهدهم الوطني واختزل من الصمود في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والاستعداد لأي عدوان جديد على القطاع، إلى البحث في لقمة العيش والتبصر أكثر في معانياتهم وتتبع وضعهم اليومي خلال أجندة العام 2015.
الفصائل المعنية بالانقسام لم تعط الأولوية للمواطن الفلسطيني، بل على العكس من ذلك، هي انتبهت إلى نفسها ووضعها المالي والإداري، وسعت تارةً إلى فرض الضرائب على الناس، وتارةًَ أخرى لاستخدام أدوات القمع والترهيب لتخويفهم وإبقائهم عند مستوى القول لا أكثر. لم تحسن حكومة "حماس" إدارة قطاع غزة، بدليل أنها لم تجد حالة من التوازن بين المتطلبات الحمساوية والمتطلبات الشعبية، أي أنها على سبيل المثال في ملف معبر رفح البري، لم تتنازل عن سلطتها هناك في سبيل فتح المعبر وتسهيل حركة المسافرين.
الحركة إذا شعرت بضائقة مالية كانت تُحمّل هذا الضغط المادي للمواطن الفلسطيني، بأسلوب الضرائب أو غير ذلك، في الوقت الذي يعيش فيه قطاع غزة بحسب الدراسات والتقارير الدولية حالةً من التصحر وتدهوراً على مستويات كثيرة.
وحال السلطة الفلسطينية ليس مختلفاً عن حال حكومة غزة، لأنها لم تولد أفكاراً خلاقة تخفف من معانيات المواطنين وتفرمل من الانقسام الداخلي، وملفات الفساد في عدة قضايا لم تفتح على غاربها ولم تتم محاسبة المفسدين والمتورطين في سرقة الأموال العامة.
وعلى صعيد المقاومة والسياسة الخارجية وبفعل الانقسام الداخلي وتداعياته، انقسم الفلسطينيون في طرق مقاومتهم، بل إن الانقسام أضعف الهبة الجماهيرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكان يمكن استثمار هذه الهبة في توحيد الصف الوطني لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.
كان يمكن تحقيق نجاحات أكبر وأقوى على صعيد المقاومة لو أن الفلسطينيين تجمعوا على قلب رجل واحد وقضية واحدة، مع الاحترام والتقدير لشريحة الشباب الذين يخوضون ويسطرون أروع ملاحم النضال الوطني ضد الاحتلال، ويسجلون في التاريخ الفلسطيني مقاومة مشروعة من نوع مختلف.
يكفي أن النضال الشبابي الفلسطيني ضد الاحتلال قد أعاد الزخم مرةً أخرى إلى القضية الفلسطينية، وأربك حسابات المستوى السياسي في إسرائيل، الذي اعتقد للحظة أن جيل اليوم من هؤلاء الشباب قد أدار ظهره للمقاومة والدفاع عن الحقوق الفلسطينية المشروعة. لابد للفصائل الوطنية الفلسطينية أن تقف عن قرب حول هذه الهبة الشعبية، وأن تفكر بعمق وهي تستقبل العام الجديد، بالطرق الممكنة لتقريب المسافات فيما بينها، والتخفيف من أوجاع الناس وربطها بالقضية الفلسطينية باعتبارها الهم الأساس والأولوية التي تسبق أي شيء آخر.
نعم ينبغي أن يتم التفكير في خلق استراتيجية وطنية للمقاومة الفلسطينية، تأخذ بعين الاعتبار إمداد المقاومة بكل أسباب الحياة والتوسع في صد سياسات الاحتلال الإسرائيلي، وتوحيد البيت الداخلي الفلسطيني لأنه صمام أمان نجاح المقاومة والحفاظ على المكتسبات الفلسطينية. نتنياهو وحكومته في العام الجديد هم نفسهم من خطط لإضعاف وذبح الفلسطينيين في العام 2015، فلا أحد يتوقع من الضبع أن يتحول إلى حمل، وكل يوم يكشر نتنياهو عن أنيابه، مستفيداً من حركة النظام الدولي الذي يشهد تفاعلات بين دول عظمى لا تنظر بأولوية إلى الصراع العربي- الإسرائيلي.
إسرائيل مع مرور الوقت تتحول من التطرف إلى أقصاه، وتسوق الأكاذيب وتشوه الحقائق حتى تبرر مجازرها بحق الشعب الفلسطيني، فهذا نتنياهو يختلق كل يوم كذبة يسوقها إلى المجتمع الدولي، وآخر أكاذيبه زعمه الملكية الأبدية لإسرائيل للحرم الإبراهيمي. ليس هذا فحسب، بل نسمع بين الوقت والآخر فتاوى دينية من مرجعيات يهودية متطرفة، تستهدف إذكاء نار العنصرية ودعوة الإسرائيليين للنفير العام، ومن هذه الدعوات أقوال للحاخام بينتسكوبتشين يطالب فيها بحرق المساجد والكنائس في مدينة القدس المحتلة.
أمام هذه التهديدات واستراتيجية الاحتلال في تهويد الضفة الغربية وتمويت الدولة الفلسطينية المستقبلية، ينبغي إعادة النظر في وسائل الخطاب الفلسطيني الداخلي، خصوصاً وأن المشروع الإسرائيلي يستهدف تجزئة المجزأ وضرب المشروع الوطني الفلسطيني في الصميم.
إن العالم اليوم يتعاطف مع الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة، وهناك عناوين كثيرة مهمة ينبغي المراكمة عليها، فحين يعترف البرلمان اليوناني بالدولة الفلسطينية، وحين ترفض البرازيل استقبال سفير إسرائيلي جديد على أراضيها لكونه مستوطناً، فإن كل ذلك لم يأت من فراغ.
المقاومة الفلسطينية المشروعة أسهمت في تعديل المزاج الدولي تجاه إسرائيل، وبالفعل الوطني الناضج والتفكير السليم المرتبط باستراتيجية وطنية للمقاومة، يمكن تأليب العديد من الدول على إسرائيل، اللهم أن ذلك يحتاج إلى استثمار الهبة الحالية وربطها بنشاط دبلوماسي مكثف على الساحة الدولية. وكل ذلك ينبغي أن يسبقه التأسيس لشراكة وطنية قائمة على إعطاء الأولوية لفلسطين الأرض والشعب، وهذا يحتم على القيادات الفلسطينية أن تعيد التفكير في برامجها وفي طرق إدارتها للسلطة في غزة والضفة، نحو إدارة العلاقات الوطنية الداخلية بتعقل وطني وحكمة ومسامحة على ما جرى في الماضي.
"الرك" على الشعب الفلسطيني، هذه المرة عليه أن يستلم زمام الأمور وأن يُقبل بنفسه على التغيير، بمعنى أنه من غير المعقول أن يمضي العام 2016 على جلودنا كما كان الحال مع العام الذي قبله، وهذا يستدعي من الشعب أن يأخذ دوره الوطني المعهود في ممارسة سلطاته.
إذا مضينا في العام الجديد دون دافع وطني ولا بصيرة وطنية تشتبك مع الاحتلال وتضرب مخططاته الاستيطانية الإحلالية، وإذا بقيت علاقاتنا الداخلية عند مستوى المراهقة والتنمر، فإننا قاب قوسين أو أدنى من التشتت والانشطار.