إسـرائيـل .. الفـوضى مـن جـديـد

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 

 

استسلم نفتالي بينيت في نهاية المطاف بعد نفاد وقود حكومته التي سارت بالدفع الذاتي بُعيد تشكيلها بوقت قصير، كانت أقل الحكومات عمراً في تاريخ إسرائيل وأغربها، وبدت كأنها تقف على أقدام خشبية ساهم الجميع في إسنادها، بدءاً من الولايات المتحدة وصولاً لمنصور عباس ومَن خلفَه وما بين كل هؤلاء، لكن تلك الرعاية لم تكن تكفي حين اصطدمت بجميع تناقضاتها دفعةً واحدة لتكتشف أن لا خيارَ أمامها سوى السقوط.
غرائبيات هذه الحكومة كثيرة؛ أولها أنها حكومة تتشكل تحت هدف واحد وهو الكراهية للرجل الأكثر كراهية في النظام السياسي في إسرائيل بنيامين نتنياهو، ولم يكن هناك سبب آخر لتشكيلها. وثانياً فقد جمعت أقصى يمين الخارطة السياسية في إسرائيل الى أقصى يسارها، والعجيب أنها تمكنت من تمرير كثير من القضايا والقوانين التي تصرفت فيها الأحزاب عكس شعاراتها ومبادراتها وتكوينها. كانت الحلبة السياسية في إسرائيل خليطاً من المتناقضات الكاريكاتورية.
سقطت حكومة بينيت لأنها لم تستطيع تمرير قانون الطوارئ في الضفة الغربية وهو قانون الأبرتهايد. وقد تجسدت تلك المفارقات في النظام السياسي الإسرائيلي ككل عندما صوّت الليكود والأحزاب الدينية والاستيطانية ضد القانون، فيما صوتت ميرتس وحزب العمل ومنصور عباس مع القانون في أغرب ما كان يمكن أن يحدث، أن تصوّت ميرتس مع الاستيطان ويصوت منصور عباس مع قضايا متعاكسة مع هويته القومية والدينية.
هي الحكومة التي ظهرت بلا حزب مركزي أو عمود فقري تتكئ عليه، مجموعة من الأحزاب المتناثرة، ثلاثة منها خرجت من حزب الليكود هي «يمينا» و»اسرائيل بيتنا» و»أمل جديد»، جميع قادتها كانوا من أقرب مساعدي نتنياهو، تعاركوا معه وانقلبوا ضده ثم عادوا للعمل معه وتعامل معهم باحتقار، ثم ناصبوه العداء المطلق ليصبح هذا العامل المشترك لأكثر ثلاث شظايا متطرفة في هذه الحكومة، وبالمناسبة ثلاثتهم كانوا على يمينه، نفتالي بينيت مدير مكتبه الأسبق، وأفيغدور ليبرمان مدير مكتبه والمدير العام السابق لليكود وجدعون ساعر الذي كان يوماً الابن المدلل لنتنياهو قبل أن ينافسه ويتعرض للسخرية والإهانة، هؤلاء عتاة اليمين شكلوا حكومة مع ميرتس وحزب العمل.
كانت حكومة هجينة بلا هوية وبلا سياسة، تنازل فيها حزب العمل وميرتس عن برامجهم سائرين خلف المدير العام السابق لمجلس مستوطنات «يشع» وكان هذا الهجين الذي يحمل عناصر موته في داخله لا بد وأن يلفظ أنفاسه في لحظة ما، وكانت هزة عيديت سليمان رئيسة الائتلاف بسبب خبز الفصح كفيلة بأن تضع الائتلاف على حافة الهاوية عندما فكرت الحكومة تقديم رشوة لليسار. وكان جرس الانذار الثاني مع غيداء ريناوي عندما ذهبت الحكومة نحو اليمين، وهكذا  أصيبت الحكومة بجراح قاتلة ماتت على إثرها.
كانت حكومة لا يملك رئيس وزرائها أكثر من ستة أعضاء كنيست، وتلك واحدة من أغرب ما مر على النظام السياسي، والأكثر غرابةً أن هؤلاء الستة الذين سيطر حزبهم على رئاسة الحكومة هم من كانوا السبب بموتها، بدءاً من عميحاي شيكلي العضو الذي تمرد مبكراً وصوّت ضد توجهات الحكومة، مروراً بعيديت سيلمان، وصولاً لنير أورباخ الذي تكرم على أيليت شاكيد بإعطائها أسبوعاً فقط، يؤجل تصويته على إسقاط الحكومة الى أن تنهي زيارتها للمغرب، وهؤلاء رفاق بينيت هم الذين كتبوا شهادة موت حكومته، وتلك مفارقة أخرى.
كان سقوط الحكومة قد تحقق في اسبوعها الأخير حين فقدت عضواً آخر وهو أورباخ، وكانت المعارضة بقيادة ذئب السياسة بنيامين نتنياهو تشحذ سكاكينها استعداداً للاحتفال بالقربان الذي ستسقطه على منصة الكنيست، ولكنه قرر السقوط وحده عندما أدرك أن لا خيارات أمامه سوى السقوط ليهرب من الفوضى القانونية كما قال.
 لكن إسرائيل تذهب الى فوضى سياسية وستكون هذه خامس جولة تجريها إسرائيل منذ مطلع 2019 حتى أوائل تشرين الثاني القادم، إذ تشير الاستطلاعات الى استعصاء آخر سيقف أمامه النظام الإسرائيلي الذي يقاتل فيه اليمين اليمين، ولم يعد هناك استقطاب أيديولوجي أو سياسي يسهل أمر تشكيل الحكومات، وهذا يعكس انتهاء الخلاف على عملية التسوية التي كانت محل خلاف في ربع القرن الأخير في اسرائيل، لتصبح خلافاتها داخلية وشخصية أكثر منها سياسية، وتلك ليست بشرى للفلسطينيين من مؤيدي التسوية، فقد انغلق الملف في إسرائيل.
نفتالي بينيت شخصية تصلح للدراسة في علم السياسة، فعندما يلبس السياسي ثوباً أكبر من ثوبه فانه يتعثر مع أول الطريق، عندما يتلبسه الوهم ويظن أنه صانع تاريخ يتكفل هذا الوهم بالقضاء عليه. وواضح أنه سيغادر السياسة وهو مازال شاباً، لأن حُلمه كان أكبر من حجمه، ولأنه استعجل أكثر مما يجب،  فحاول بستة مقاعد أن يقفز إلى المقدمة ليكسر قدمه لأن القفزة كانت أكبر من إمكانياته.
ظهر بينيت لأول مرة نجماً صاعداً في عالم السياسة الاسرائيلية عام 2012 زعيماً للبيت اليهودي الذي ورث مجموعة أحزاب يمينية، ليحصل على 12 مقعداً بعد أن تسلم الحزب الديني الوطني الذي كان قد حصل قبل بينيت على ثلاثة مقاعد، تأهل حينها ليكون بيضةَ قبّان ويحصل على وزارة سيادية. كان يخطو بنجاح نحو الساسة لكنّ طموحه الزائد قتله وها هو يلقي به خارج الحلبة السياسية وليس لديه ما يفعله، فقد تخلى عنه رفاقه وأعضاء حزبه الذين بدؤوا ينفضّون عنه واحداً تلو الآخر وينصحه مقربوه بالاعتزال لأن الاستطلاعات لا تؤهله للعودة للحياة السياسية.
أما لماذا هذه الفوضى منذ سنوات والمرشحة للاستمرار كما تنبئ نتائج استطلاعات الرأي؟ فجزء منها شخص رئيس حزب الليكود الذي يريد الكثيرون أن يثأروا منه كمراوغ أهان الجميع وبات يتزنر بمعسكر المتدينين والقوميين، وهو معسكر رافض للتعايش مع الآخر اليهودي، وثانياً لأن اسرائيل غادرت أسباب الخلافات السياسية ومنها إسدال الستار على الملف الفلسطيني.
 ولكن السؤال ماذا لو عاد نتنياهو؟
رغم صعوبة الأمر استطلاعياً ولكن لو حدث ربما سيكون أفضل للفلسطينيين حين يعود الاشتباك مع إدارة بايدن كما يقدر بعض محللي إسرائيل، وهي الإدارة التي بذلت جهوداً لإزاحته، والأهم فأن يكون بن غفير وزيراً للخارجية أو سموتريتش أمر أفضل كثيراً من لابيد وميرتس والعمل وغانتس ..!