عن الثقافة في الزمن الإبراهيمي..!!

izhM5.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 

تكلّمت الأخبار، اليوم، عن التحاق ضابط إماراتي بكلية الأمن الإسرائيلية في وقت قريب. يمكن تفسير الخبر بطرق مختلفة. أهمها، على الأرجح، تجهيز البنية التحتية للناتو العربي ـ الإسرائيلي، مع كل ما تستدعي من توفير ضباط وقنوات اتصال بين المتحالفين، وجسر الهوّة بين استراتيجياتهم وعقائدهم العسكرية والأمنية. إضافة إلى ما للعلاقات الشخصية من فوائد وعوائد لا تخفى على أحد. لا بأس.  
كنّا قد أشرنا في ختام مقالة الأسبوع الماضي إلى أزمة أخلاقية في الحقول الثقافية للحواضر (حيث تُنتج القيم) بما فيها ما يخص الفلسطينيين. منشأ الأزمة: "تطبيع" الاستثناء الصحراوي وتعميمه على الحواضر. (من طراز: للعرب خصوصيات دينية وثقافية وتاريخية واجتماعية تحول دون محاكاة النظم السياسية الديمقراطية في العالم). وتجلياتها: تحويل استثناء القرون الوسطى إلى قاعدة في القرن الواحد والعشرين، وإعادة الاعتبار إلى درنات دولانية أركيولوجية، وتمكينها من موقع الريادة والسيادة.
لن يتمكن أحد، في الواقع، من حصر التأثيرات بعيدة المدى "لتطبيع" الاستثناء بما يضمن تحويله إلى قاعدة. حاولنا اختزال دلالات مختلفة في تعبير "البلادة الأخلاقية". وهذا النوع من البلادة مناسب، تماماً، خاصة في سياق الكلام عن، وتشخيص، الحقل الثقافي، الذي قلنا إنه المكان الذي تُنتج فيه القيم. فالقيم تضع القيود، وترسم الحدود، ومن حصاد البلادة اجتياز الحدود، ورفع القيود.
الأمور، كما نعلم، ليست دائماً بهذا القدر من الصفاء، فبعض أبرز دعاة تحرير العبيد في الولايات الأميركية كانوا من مالكي العبيد. ومع ذلك، في التناقض بين قيم الحرية، مثلاً، وغض النظر عن استثناء هناك أو هناك، ما يترك مساحة للضمير، وما يفتح باباً لحساب النفس، الاعتراف بالخطأ، ودفع التعويضات اللازمة في حالات بعينها. وهذا ما تجلى في اعتذار دول أوروبية عن جرائم ارتكبتها في زمن الإمبراطورية.
والمهم، أن هذا كله إشكالي في النسق العربي ـ الإسلامي، حيث تنوب مفاهيم "الحلال" و"الحرام" عن قيم الأزمنة الحديثة، وحيث لا مكانة يعتد بها للضمير بوصفه فاعلاً مستقلاً. فلم نشهد حتى الآن خروج مظاهرات عابرة للحدود، احتجاجاً على عمليات انتحارية تقتل أبرياء في وسائط النقل، والأسواق، والأعراس، وحتى في الكنائس والمساجد. ومن المُستبعد أن يتوقع عرب تضرروا، حتى في الأحلام، الحصول على اعتذار وتعويضات من منتجي وممولي الدواعش، الأيديولوجيا والتنظيم.
قلنا: هذا كله إشكالي، ولأنه إشكالي، فإن البلادة الأخلاقية لا تمثل عبئاً ثقيلاً، بالنسبة لعاملين في الحقول الثقافية للحواضر، ولعاملين في الحقل الثقافي الفلسطيني. وما يجعل من البلادة "خفيفة" و"لطيفة"، علاوة على إشكالية وهشاشة وجود القيم، أن "تطبيع" الاستثناء مشروط بالفصل بين الحقلين الثقافي والسياسي، وتمويه العلاقة بين الثقافة والترفيه، وبين "المثقف" والإعلامي.
لا يتسع المجال، هنا، للكلام عن حقيقة أن مراكز الثقل الإعلامي والثقافي والسياسي توجد الآن بعيداً عن القلب الحضري والحضاري للعالم العربي، حيث وُلدت وشكّلها البشر، كالصلصال الحار، كما شكلتهم، على مدار قرون طويلة، عرفت فيها الثورات والحروب والانتصار والانكسار.
 شخّص الفرنسي، اللامع، أوليفيه روا، الأصوليات الدينية (بما فيها الإسلامية)، في كتاب ذائع الصيت، بوصفها تمثل ديناً بلا ثقافة، حين تغرّبت الأديان عن بيئاتها التقليدية، ومسقط رأسها اللغوي والجغرافي، والثقافي، في زمن "الجهل المقدس". لذا، وعلى سبيل المحاكاة، لا يبدو من قبيل المجازفة القول إن مراكز الثقل الجديدة، كينونات هجينة، بلا ذاكرة ولا تاريخ. لذا، تمويه الفرق بين "المثقف" الذي يقع على عاتقه عبء إنتاج المعرفة، ومساءلة وحراسة القيم، والإعلامي الذي لمظهره أهمية أكثر بكثير من مخبره، من طبائع الأمور.
وهذا، أيضاً، يجعل من البلادة الأخلاقية "خفيفة" و"لطيفة"، بالنسبة للعاملين في حقول ثقافية مختلفة، بما فيها الفلسطيني، الذي أصبحت مؤسساته الثقافية (من الطراز السوفياتي المتأخر) قدوة في مهارات التأقلم، وتبديل الأقنعة: فهي محافظة، ورجعية، وتقدمية، وثورية، وأوسلوية، وسلطوية، وعروبية، وإقليمية (حسب التساهيل) تشتم السلطة، وتضرب بسيفها، من حين إلى آخر. وعلى سبيل الرياضة اليومية: تشتم إسرائيل، وتلعن "سنسفيلها" في كل الأحوال، حفاظاً على لياقة ورشاقة "وطنيتين".
لم أشغل نفسي في هذه المعالجة بالكلام عن الجوائز، والمعارض الفنية، والمهرجانات، الندوات، والاحتفالات، وسوق المنتجات الثقافية (كالأفلام، واللوحات، ومعارض الكتاب) التي تحفل بها مراكز الثقل الجديدة، وتُغدَق فيها أموال طائلة على أصحاب الحظ السعيد.
والواقع أن حقيقة الأموال الطائلة لا تؤثر على ما يُنتج العاملون في حقل الثقافة وحسب، بل وعلى ما يفكرون في إنتاجه، أيضاً. فالبعض يكتب وفي الذهن جائزة قد تُخرجه من براثن الفقر مدى الحياة، لذا لا يغامر بتهديد فرصته، أو فرصتها، في النجاة، بعبارات أو قضايا "لا تقدّم ولا تؤخّر" لكنها قد تثير الاستياء.
وهذا يصدق على أشياء كثيرة في القلب منها حقيقة أن السياسة ثقافة في الجوهر، وأن الثقافة سياسة في الجوهر. لذا، فلنفكر، دائماً، في الفصل المُتوهّم والتعسفي بينهما، كممارسة ثقافية وسياسية في آن.
وهذا، على أي حال، هو سر مراكز الثقل الجديدة، فكل ما حجبته وصمتت عنه أشد بلاغة، وأعلى صوتاً، من كل ما نطقت به، وأفصحت عنه، ولكن سماعه يحتاج أذنين اثنتين، وعينين اثنتين، ومكيالاً واحداً، ويقظة أخلاقية صارمة، في الزمن الإبراهيمي، الذي أنجب مراكز ثقافية هجينة بلا ذاكرة ولا تاريخ، ويحرض ما فيه من بلادة أخلاقية على الدفاع عن حواضر بركت كالعجول الذبيحة وستبقى، حتى وإن سبحت الآن في دمها، أصيلة ونبيلة.