ليست جديدةً محاولة أميركا إنشاء تحالف عسكري إقليمي في المنطقة العربية بقيادة إسرائيل، بل هي قيد التنفيذ. الجديد أن هناك مشروع قرار في الكونغرس لجعل تأسيس حلف يدمج أسلحة الجو في دول عربية بنظيرها الإسرائيلي قانوناً ملزماً، وإعلانه سياسة رسمية تحاسب عليها الإدارات الأميركية، الحالية والمقبلة. قد لا يمرّ مشروع القانون بشكله الحالي، لكنه مُقدّمة لإعلان الحلف رسمياً من خلال تشريعاتٍ تضع شروط العضوية على الدول العربية، لترسيخ قيادة تل أبيب، وتمكينها من تغيير مفاهيم الأمن الإقليمي. والمشروع المُقَدّم من مجموعةٍ مؤلفةٍ من خمسة أعضاء في الكونغرس، تسمّي نفسها "تحالف الاتفاقات الإبراهيمية"، يتحدّث بصراحة عن ضرورة هذا الدمج لحماية أمن إسرائيل. وعليه، إن نشر إسرائيل، أخيراً، رادارات رصد صواريخ داخل الإمارات والبحرين، كان خطوةً عمليةً متقدّمة لدمج قوى الطيران الحربي، بما فيها منظومات الصواريخ، تحت قيادة إسرائيل، وإذا كان هذا يُعدّ خرقاً غير مسبوق للأمن القومي العربي، فهذا ليس إلا البداية.
شكّل نشر نظم الرادارات الإسرائيلية، كما أكدته صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية والقناة التلفزيونية الإسرائيلية 12، صدمة لكثيرين لم يتوقعوا أن يحدُث بهذه السرعة، لكن قصته تكشف عن طريقة عمل أميركا، وتجاوب دول مثل الإمارات معها، فالطلب جاء من الإمارات نفسها "لحمايتها من صواريخ الحوثيين"، وفقاً لتقارير صحافية إسرائيلية في أواخر يناير/ كانون الثاني وأوائل فبراير/ شباط، ولكنه بدا كأنه طلب موجّه أميركياً، كما في الخطوات ما قبل اتفاقية التحالف "الإبراهيمية"، وما بعدها لم يكن بعيداً عن الإصرار الأميركي على جعل إيران "عدوّاً استراتيجياً" وإسرائيل "صديقاً حميماً" للعرب في المنطقة. لكن خطة التحالف العسكري – الأمني، بأبعادها المختلفة، لن تشمل الإمارات والبحرين فحسب، فمشروع القانون المتداول في الكونغرس يشمل الأردن ومصر وجميع دول مجلس التعاون الخليجي، ويعني أننا سنشهد ضغوطاً حثيثة على هذه الدول، لدخول قوات سلاح الجو لديها في هذا التحالف، ومن ثم تتّجه أميركا إلى دول عربية أخرى، بالمنظور الأميركي قبول أي دولة عربية بدخول اتفاقية مع إسرائيل يشكل عملاً ضاغطاً أو مشجّعاً للدول الأخرى على اللحاق بها. وعليه، لا تقلّل الإدارة الأميركية من أهمية دخول الرياض في معاهدة تطبيع مع إسرائيل، وتأثير ذلك في الشعوب العربية.
ليس الحديث هنا عمّا تقوم به الإمارات والبحرين، بل عمّا هو مرسوم للمنطقة. للأسف، تسبق الدولتان المذكورتان الجميع في تعميق العلاقات مع إسرائيل، بشكلٍ يضرّ كل دولة فيها والأمن القومي العربي بأجمعه. وواشنطن تريد أن تحلب الاتفاق الإبراهيمي، حتى يفتح جميع الأبواب والنوافذ في العالم العربي، وإذا كانت هناك أبواب مفتوحة على التطبيع، فذلك ليس كافياً، فالمطلوب الآن دكّ كل الأسوار أمام التطبيع وتذويب العالم العربي في بحر الاستراتيجية الأميركية - الإسرائيلية. لذا؛ كل خطوة تطبيعية مهمة، وأميركا تبني عليها، فليس في منظورها ما يمكن اعتباره تطبيعاً نسبياً، فالتحالف الإبراهيمي قد غيّر قواعد اللعبة الأميركية – الإسرائيلية؛ فوفقاً لما يتحدّث به مسؤولون أميركيون وخبراء في مراكز أبحاث صهيونية وأميركية، "الاتفاقات الإبراهيمية كانت نقطة تحوّل" و"بداية انتصار" غير مسبوق للسياستين، الأميركية والإسرائيلية، في المنطقة.
وليست واشنطن مستعجلة تماماً في الضم الفوري للدول المتردّدة إلى حلف أمني – سياسي إقليمي، بل تعمل على جعله أمراً واقعاً على الأرض، من خلال جرّ دول متردّدة إلى علاقات تطبيعية مع إسرائيل، لا تبدو لبعض الدول العربية خطيرة، أو تشمل تنازلاً عن مواقفها المعلنة تجاه فلسطين، حتى إن أميركا أقنعت وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لبيد، المعروف بتطرّفه، بأن التطبيع مع السعودية سيأخذ وقتاً أطول، وأن العملية ستتحقّق "بخطواتٍ صغيرة". ففي مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية، أوضح لبيد أن إسرائيل تعي أن "عملية التطبيع مع السعودية ستأخذ وقتاً طويلاً، مع إحراز تقدّم بخطوات صغيرة"، محذّراً الإسرائيليين من توقع الاستيقاظ على "مفاجأة كبيرة"، وأن الموضوع قد يأخذ سنواتٍ، وقد لا يتحقق إلا بعد عهده، كوزير خارجية بسنوات"، وهو بكلامه يعكس توجّه إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، التي تتبع سياسة "الخطوة خطوة" التي أسّس لها وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، أحد أهم منظري السياسات الخارجية.
لا يدفع وزير الخارجية الأميركية، أنطوني بلينكن، السعودية، في الفترة الحالية، إلى إعلان تطبيع رسمي مع إسرائيل، لكنه يرعى، مع فريقه، محادثات سعودية – إسرائيلية غير مباشرة تمهيداً لخطوات تطبيعية، وإلى إرساء فكرة "المصالح الأمنية المشتركة"، كما أشار لبيد في حديثه الإذاعي، فتغيير مفهوم الأمن الوطني للسعودية، أو لأي بلد عربي، في حد ذاته، مهمّة خطيرة، تخدم توجّه الإدارة الأميركية بإنشاء تحالف أمني عربي – إسرائيلي في المنطقة، وهذا ما حدث مع الإمارات، فقد جرى تبنّي مفاهيم كانت تُعدّ تجاوزاً على مفهوم الأمن القومي والوطني، ولكن، من الواضح أن الأمر أصعب في السعودية.
واللافت أن عنوان مشروع قانون الكونغرس "ردع قوات العدو وتعزيز الدفاع الوطني"، ومختصره مأخوذ من الدفاع (ديفيند)، وهي محاولة لترويجه قانون دفاع عن الأمن الوطني الأميركي، باعتبار أن "أمن إسرائيل جزء من الأمن الوطني الأميركي". والعدو هنا إيران، والمطلوب أن تنظّم أميركا حلفاءها في المنطقة لحمايتهم من الخطر الإيراني، في إطار عسكري يدمج إسرائيل بالمنطقة ويحقق هيمنتها. ولكن فيما يتحدّث واضعو مشروع قانون "ديفيند" عن حماية حلفاء أميركا في المنطقة، فإنهم يعلنون، في الوقت نفسه، هوية داعمي المشروع، وهم جميعاً، بلا استثناء، منظمات صهيونية كبيرة، بما في ذلك اللوبي الصهيوني الرسمي "إيباك"، حتى إن إحدى أعضاء مجلس النواب الأميركي، كاثي ماك موريس روجرز، نشرت، على صفحتها الرسمية على موقع الكونغرس، أسماء المنظمات المؤيدة، والأرجح أنها المحرّضة على المشروع ومؤلفة نصّه، إذ حتى لو لم يمرّ القانون، الذي قد تعتبره الإدارة سابقاً لأوانه، فإنه ليس بعيداً عن هدف إنشاء تحالف إسرائيلي عربي أمني وعسكري، وهو ما تسعى إليه واشنطن.
ولم يخفٍِ الرئيس جو بايدن أن هدف زيارته المنطقة "دمج إسرائيل" في المنطقة. لذا، لم يكن مستغرباً أن يهبّ اللوبي الصهيوني ويحرّك جماعة له في الكونغرس، خصوصاً أن مشروع قانون ديفيند يتحدّث عن توفير تمويل لوزير الخارجية الأميركية لدعم المشروع عسكرياً ومالياً، ولا استغراب إذا كان بلينكن مشاركاً أو متواطئاً مع المشروع، فهو معروفٌ بتأييده العميق لإسرائيل، ولا ينكر ذلك. ولعل النقطة الكاشفة في مشروع القانون أنه يحتّم على الدول العربية المشاركة، كلاً على حدة، في الدفاع عن المنطقة في مواجهة إيران، أي أن تصبح الدول العربية وقواتها الجوية وصواريخها في خدمة الدفاع عن إسرائيل، فالهدف من التطبيع طغيان المشروع الصهيوني على كل مفاهيم الأمن الوطني أو القومي، بل المطلوب شطب هذه المفاهيم من الوعي العربي، لذا لا بديل من مقاومة التطبيع.
عن "العربي الجديد"