إذا كانت المخابرات الاسرائيلية قد أعترفت بارتكاب ثلاثة اخطاء استراتيجية في تاريخها ، فإن المخابرات العربية إجمالا لم تعترف بأي خطأ ، صحيح انها طورت من طرائقها و حدّثت من وسائل عملها ، ولكنها لم تعترف بأخطائها:
اولا : ليس للمخابرات العربية كما نعهد "استراتيجة" محددة ، تعكف على الوصول اليها خلال مدة محددة او حتى مفتوحة ، و لهذا لطالما مات مدير الجهاز بعد ان عمر طويلا – 30الى 50 سنة – دون ان يحقق استراتيجيته.
ثانيا : ليس للجهاز اهداف او اولوية اهداف سوى هدف واحد هو حماية النظام او رأس الحكم ، باقي الاهداف إن وجدت تأتي دائما في المرتبة الثانية ببعيد.
ثالثا : يعتمد الجهاز جماهير الشعب هي العدو الاول الذي يمكن لها ان تتهدد النظام وتسعى بالتالي الى اسقاطه ، و لهذا تتحسس تحركات الناس و تململهم خوفا من المظاهرات او الاعتصامات فتسارع الى قمعها.
رابعا : و لكي يحول الجهاز دون الوصول الى هذه المرحلة ، فإنه يزرع عملاءه و جواسيسه في كل مكان ، و يبسط يده على الاعلام بكافة انواعه ، احيانا بشراء ذممه و احيانا بفرض الرقابة العسكرية على كل ما ينشر ، كما يبسط يده على الدين ، شيوخا و قساوسة ، مساجد و كنائس ، حتى ان أحدهم في فلسطين التي لم تصبح دولة بعد ، ذهب الى تكفير كل من يعارض الرئيس ووجب قتله.
خامسا : التعامل مع المعارضة وزعمائها لا يقتصر على الزج بهم في السجون ، بل أحيانا كثيرة يتم التخلص منهم بالقتل والاعدام والاغتيال والتعذيب حتى الموت او البراءة او تدبير "حوادث موت" او النفي والابعاد واحيانا بتشويه السمعة ، في فلسطين تم تصوير منافس وليس معارض بعد ان زجوا بإمرأة الى مكتبه لغرض الابتزاز ، وتم اعفاء مدير الجهاز من منصبه على يد هذه الممارسة.
سادسا : لا يتحمل جهاز المخابرات العربي ، اي مسؤولية عن هموم الناس و مشاكلهم الحياتية او الاقتصادية او الصحية او التعليمية ، بعكس اجهزة مخابرات الدول العميقة ، التي تعتبر قضايا الناس و همومهم في صلب مهماتها . المخابرات الاسرائيلية على سبيل المثال هي التي تصدت لوباء الكورونا و مطاردته و محاصرته ، لم تغتل عبر كل تاريخها معارضا واحدا ، وليس في سجونها العديدة سجين رأي واحد ، بل على العكس ، ربما أدركت أهمية المعارضة ، و حرصت على حريتهم و حرية ارائهم و تعدد منابرهم الاعلامية الخاصة بهم ، حتى بات الصوت العربي في الانتخابات الاخيرة هو من يحسم الحكومة بين الاحزاب المتصارعة.
ربما هذا هو ملخص الفرق الجوهري بين جهاز يحمي الزعيم حتى من غضب الشعب ، و بين جهاز يحمي الشعب من اي خطر يتهدده بما في ذلك خطر الزعيم (الفساد ، الاخلال بالقوانين ) ، و لكم من مرة تم اعتقال الزعيم ومحاكمته ، ولهذا يترسخ هنا جهاز امن يحظى باحترام الناس وتثمين وعيهم و مبادئهم وبالتالي دورهم ، و يحظى هناك بنقمتهم و الحط من محدودية عقليتهم و افتقارها الى اي قيم عليا و بالتالي لعنتهم . و قد قال فيهم المتنبي قبل أكثر من ألف عام : لكل داء دواء يستطب به / الا الجهالة أعيت من يداويها.