إن سألت فلسطينيًا عن مستقبل الصراع الدائر مع الصهاينة على أرض فلسطين، كل فلسطين، منذ 74 عامًا، سيجيب، من دون عميق تفكير، إن الكيان الصهيوني ظاهرة عابرة ستنتهي، أو سيقول: حتمية التاريخ تخبرنا بأن الاستعمار والاحتلال والظلم إلى زوال. أو إذا اختلفت خلفيته سيردّ: القرآن وأحاديث الرسول الكريم يعطياننا الإجابة إن النصر سيكون حليفنا، وهذا وعد حق، والله لا يخلف وعده. ولا يعني الإيمان بالحتميات والنبوءات اتكاليةً في عرف الفلسطيني، فهو في حالة نضال دائمة، لا يتوقف عن السعي إلى التحرّر، إلا كي يستعدّ لبدء جولةٍ جديدة. إذًا، لا خلاف بين الفلسطينيين مهما تعدّدت مشاربهم الفكرية والعقائدية حول نتيجة هذا الصراع، فالنصر لديهم حتمي. ومن نافل القول إن الصراعات إرادات، وطالما الفلسطيني يؤمن بحتمية الانتصار، فهذا يعني أن إرادته لن تنكسر.
وإذا كان هذا رأي الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، فإن القيادات التي تتعامل مع المحيطين العربي والإقليمي والمجتمع الدولي ترى الأمور بنظرة مختلفة، فهي ترى أن تحالفات العدو مع داعميه وقوتهم وأساليبهم بالضغط والتهديد قد تجدُ حلًا للمعضلة. كان ياسر عرفات يجيد فن اللعب على الحبال، وظن أن اتفاقية أوسلو من تلك الألاعيب التي سيتجاوزها ليصل إلى هدفه المتمثل في تحرير فلسطين، لكنه وقع عن الحبل وكُسرت عنقه. وبعده، لم تعد هناك مساحات للمناورة، بل استسلام قيادي لإرادة العدو. ولا قيمة للسلطة إلا في تسيير حياة يومية من دون القدرة على تجاوز الاتفاقيات التي تجاوزها العدو، وتمسّك بما يخدم مصالحه؛ من اتفاقيات أمنية حوّلت السلطة إلى شرطي في مواجهة شعبها، وجعلها واحدة من إدارات الاحتلال، ومعها منظمة التحرير التي تحولت إلى واحدة من إدارات السلطة بدل العكس، مع هامش حرية محكوم بالحصار الأميركي والدولي والرسمي العربي.
تمثل هذه الحالة عائقًا أمام تطوير النضال الفلسطيني، حيث تغير العالم وأساليب النضال تعدّدت، ونظرة الفلسطيني إلى نفسه وقوته لم تعد كما في الماضي، فهي اليوم أكبر وأعمق ومداها أوسع. هذه الحالة هي نفسها التي أوجدت حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات (BDS)، وهي حركة هدفها استخدم أساليب النضال الجنوب أفريقي، وقد حققت نجاحات كبرى في أوروبا والولايات المتحدة، ما ولّد حالة استنفار شاملة في الغرب، أدّت إلى حظر الحركة وتجريمها في بعض البلدان، إلا أنها ما زالت ناشطة ومؤثرة. وهناك حركة فلسطين حرة التي يشارك في نشاطاتها نجوم عالميون أبرزهم عارضتا الأزياء جيجي وبيلا حديد. وفي فلسطين المحتلة، ثمّة نشاط شبابي، لا يخضع للفصائل الفلسطينية أو الأحزاب العربية في الداخل المحتل عام 1948، يرفض أساليب القيادات التقليدية، وينادي بفلسطين كاملة من النهر إلى البحر، فلسطين لا عنصرية فيها ولا فصل عنصري ولا تطهير عرقي؛ فلسطين لكل سكانها لكن بلا صهيونية. هؤلاء الشباب بحاجة إلى قيادة شابة بأفكار جديدة تلتفّ حول الجماهير، وقريبة من أحلامهم وطموحاتهم، وتعبّر عن إرادتهم وعنفوانهم؛ قيادة بعيدة عن الترف، ولا ترى الدولة حبرًا على ورق، أو أقصى مساعيها تحقيق إدارة ذاتية محكومة من الاحتلال. قبل اتفاق أوسلو، لم يكن هناك أدنى شك، فصائليًا وشعبيًا، بأن الكفاح المسلح والحرب الشعبية الطويلة الأمد هما الطريق الحتمية والوحيدة لتحرير فلسطين. ومع تغير العالم، تطوّرت أساليب النضال، ويمكن تنويعها بشرط أن تكون هناك قيادة قادرة على مسايرة الواقع الجديد، وهي بالتأكيد يجب أن تكون شابة لشعب أكثر من 70% منه ينتمون للجيل الشاب.
في الآونة الأخيرة، تردّدت شائعات كثيرة عن صحة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وصلت إلى إعلان وفاته، ليتبين لاحقًا أن كل ما قيل أكاذيب كما في مراتٍ خلت. وبصرف النظر عن الجهة التي تروّج الأكاذيب والغرض منها، إلا أن هناك حقيقة أن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى قيادات جديدة تفكر بشكل مختلف عن أسلافها، وتتبنّى النضال الجنوب الأفريقي المتمثل في القضاء على التمييز العنصري، والسعي إلى فلسطين كاملة موحدة بمساواة كاملة بالحقوق، والخروج من "أوسلو" وتبعاته المذلّة، على أساس إيجاد طريق للخلاص بعيد عن وهم التسويات على أساس حل الدولتين، التي تبيّن أنها سراب استُغلت صهيونيًا لتجريد الفلسطيني من كل عناصر قوته، وتحويله إلى أداة لخدمة أمن الكيان واستمرار مشروعه.
في نظرة أولية، يبدو الخروج من أوسلو وطرح خيارات بديلة أمرًا غير منطقي، فـ"أوسلو" ليس ورقة، بل جيش من الموظفين ومؤسسات قائمة ورواتب، ولا بدائل عربية تعوّض أموال المقاصة والتمويلين الأميركي والأوروبي، حيث فشلت القيادة الفلسطينية خلال الأعوام الماضية في الحصول على مظلة مالية عربية تساعدها على الخروج من ورطتها الأوسلوية التي جعلتها رهينة الاحتلال. ويطرح هذا الفشل خيارًا آخر يكمن في إيجاد تمويل شعبي؛ فلسطيني وعربي وإسلامي وعالمي ربما، ويجب العمل عليه، فقد يتحقق خلال سنوات قليلة، وهذا التمويل ليس للمؤسسات القائمة التي تشكل عائقًا، وبقاؤها وفق طريقة عملها الحالية سيكون نقيضًا لاستراتيجية فلسطين كاملة، ففلسطين الكاملة بحاجة إلى منظمة تحرير فتية يقودها جيل شاب واع، هدفها السعي إلى تطبيق الميثاق الوطني الفلسطيني، لكن وفق المتغيرات وبطريقة مقنعة بأن الشعب الفلسطيني يسعى إلى السلام في كل فلسطين، وذلك لن يتم إلا بدحر الصهيونية.
أوسلو وفق من وقع عليه ويلتزم به أصبح ضربًا من الماضي، والسؤال: إذًا ما الحاضر وما المستقبل؟ لقد منح الرئيس عباس العالم سنة واحدة تنتهي في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، إذ قال في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة: "إذا لم تستطيعوا تحقيق حل الدولتين، فلا خيار أمامنا إلا الذهاب إلى حل الدولة الواحدة"، لكن الصهاينة يرفضون كل الحلول، وأوروبا لا تريد ولا الولايات المتحدة. الكل يريد استمرار الوضع الراهن؛ استمرار المأساة، وحدهم الفلسطينيون من يستطيعون تغيير قدرهم بعدما تخلّت عنهم حكومات العرب وتحولت إلى حلفاء وحماة للصهيونية. آن الأوان للتفكير جدّيًا في تغيير الأساليب والهدف، وإلا سنبقى في مسلسل من الظلم لا نهاية لحلقاته، وهو ما لا يليق بشعبٍ مثل الشعب الفلسطيني، الذي يُعدُّ، وفق كل المقاييس، من سلالة نادرة لا تلين، ولا تعرف الخوف ولا الهزيمة.