يمكن للمدني، أيضاً، تهديد الديمقراطية..!!

izhM5.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 

كنتُ في تونس العاصمة يوم السابع من نوفمبر 1987. لماذا أذكر هذا التاريخ بالذات؟ لأنني أفقتُ صباح ذلك اليوم على بيان يُعلن إعفاء الرئيس الحبيب بن بورقيبة من منصبه كرئيس للدولة، بناء على توصية لجنة من الأطباء، وتولّي زين العابدين بن علي، الذي كان رئيساً للوزراء، مقاليد الحكم في البلاد. وفي اليوم نفسه، أذاع بن علي بصوته: "لا رئاسة إلى الأبد".
سمعتُ من مُقرّبين من أروقة الحكم، في نهاية ذلك اليوم الطويل، تفاصيل الانقلاب، وكيف صرخ بورقيبة، بعدما أفاق من صدمة التنحية القسرية، بالفرنسية وفي مزيج من الاستنكار والاحتجاج: "أنا الرئيس، أنا الرئيس". والواقع أن عبارة "لا رئاسة إلى الأبد" وجدت أصداء إيجابية لدى شرائح واسعة من الناس في حينها.
ففي أيامه الأخيرة، تمكنت أعراض الشيخوخة من بورقيبة، ضعفت همّته وذاكرته، وصارت مقاليد الحكم، من ناحية فعلية، في يد ابنة شقيقته سعيدة ساسي، ومدير مكتبه منصور السخيري. وكان كلاهما قادراً على تعيين وزراء وإقالة آخرين، ناهيك عن الصعود الملموس والمفاجئ للإسلام السياسي في الفضاء الاجتماعي العام (كان الغنوشي يزورنا تلك الأيام في مركز التخطيط).
وفي سياق كهذا، قوبل انقلاب بن علي بقدر من الترقّب والارتياح. ومع ذلك، نكث المذكور بوعده "لا رئاسة إلى الأبد": انشأ دولة بوليسية، تلاعب بالدستور، وزيّف الانتخابات، وجثم على أعناق العباد والبلاد أربعة وعشرين عاماً، وأطاحت به ثورة شعبية في الموجة الأولى للربيع العربي.
ترد كل هذه التداعيات إلى الذهن في معرض التعليق على كلام الصادق بلعيد، رئيس لجنة صياغة الدستور في تونس، الذي رفض، قبل أيام قليلة، دستوراً مُقترحاً نشره الرئيس قيس سعيّد، بالقول إنه يحتوي على فصول تمهّد الطريق "لنظام دكتاتوري مشين". وفي هذا المعنى، أيضاً، يندرج اعتراض الاتحاد التونسي للشغل (أهم النقابات العمالية في الحواضر العربية) على "الصلاحيات الواسعة" التي يمنحها الدستور المُقترح للرئيس.
فلنقل بشكل أكثر مباشرة: ثمة محاولة من جانب الرئيس سعيّد لتـأبيد وجوده في الحكم، و"إنشاء دكتاتورية مشينة" بلغة السيد بلعيد ومفرداته. ولا معنى، أو قيمة، في الواقع، لكل المرافعات، والبلاغة، والذرائع، التي يمكن أن نسمعها في هذا الشأن. فبن علي الذي نكث بوعد "لا رئاسة إلى الأبد" لم تعُزه الحيلة، ولا الوسيلة في تسويغ ما أراد، وكذلك بورقيبه، الذي تزعّم الكفاح في سبيل الاستقلال، وتصوّر أن وجوده الفيزيائي، حاكماً إلى الأبد، دليل الاستقلال وضمانته.
يعرف مستهلكو السياسة وأخبارها في الحواضر العربية أن التجارب المصرية، والسودانية، والسورية، والعراقية، والليبية، واليمنية، والجزائرية، منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتى يوم الناس هذا، تتجلى كوسائل إيضاح ناجعة ونافعة لتجربة الحكم في تونس. ولعل في هذا ما يُحرّض على طرح أسئلة من نوع: هل البقاء في سدة الحكم مدى الحياة، ومحاولة إنشاء سلالات حاكمة، ظاهرة وثيقة الصلة بالعالم العربي، ومجتمعاته، وميراثه الثقافي، ومخياله السياسي، و"قيمه" الأخلاقية؟
الجواب: لا. فكوريا الشمالية دولة "اشتراكية" يقودها حزب "شيوعي"، وتحكمها سلالة حاكمة. والدولة الصينية، التي أنشأها ويحكمها حتى الآن حزب "شيوعي"، عدّلت دستورها لتمكين الرئيس الحالي من الحكم إلى الأبد. وحتى في الغرب الديمقراطي نفسه، تتفشى ميول معادية للديمقراطية، وتداول السلطة، نعثر عليها في الدفيئات الأيديولوجية لليمين، وفي محاولة ترامب الانقلابية الفاشلة.
ومع ذلك، من الظلم، والهبل، إعفاء الميراث الثقافي، والمخيال السياسي، و"القيم" الأخلاقية للعالم العربي من المسؤولية. ففي الميراث، كما المخيال، والبنية الأبوية، و"القيم"، عناصر أصلية معادية للديمقراطية. وقد أثار هذا الجانب، بالذات، اهتمام الباحثين في علوم السياسة والاجتماع ما بين معارض أو مؤيد لدور ما ذكرنا في ظاهرة "الاستعصاء العربي" في التحوّل الديمقراطي. أطلق البعض على النظم الهجينة تعبير "الجملكية"، وكُتبت عنها الروايات.
وإلى ما تقدّم نعثر في آخر تجليات النموذج التونسي على ظاهرة جديدة فعلاً، ومن شأنها تعميق النقاش بشأن الديمقراطية ومُعيقاتها في المراكز الحضرية والحضارية للعالم العربي. فبعد انكسار الموجة الأولى، وتعثّر الثانية، للربيع العربي، ونجاح الثورة المضادة في أكثر من مكان، صار من المقبول على نطاق واسع لدى العاملين في علوم السياسة والاجتماع أن وجود الجيش في سدة الحكم يحول دون التحوّل الديمقراطي.
ومع ذلك، في النموذج التونسي ما يفتح آفاقاً جديدة في سجالات التحوّل الديمقراطي. فقد جاء الرئيس التونسي من الجامعة لا من الجيش، وأوصلته إلى سدة الحكم انتخابات ديمقراطية، ناهيك عن حقيقة محدودية دور الجيش في بنية النظام السياسي والدولة في تونس. بمعنى آخر، ثمة معيقات للتحوّل الديمقراطي غير مؤسسة الجيش. فما هي؟
 ثمة إجابات تقليدية، وقليلة الأهمية، من نوع شهوة السلطة، وجنون العظمة، والعمالة..الخ. كلها تشبع الغرائز، ولا تصلح أرضية للبحث في علوم السياسة والاجتماع، ناهيك عن تقزيمها لدور وفعالية الطبقات والمؤسسات الاجتماعية، ومستوى تطوّر المجتمع المدني، إضافة إلى تأثير القوى الإقليمية والدولية في لعبة السياسة الداخلية. وفي هذا الجانب، بالذات، ثمة أكثر من علامة على التأييد النشط والضمني، من جانب قوى الثورة المضادة في الإقليم، للسياسات الحالية في تونس، بذريعة ضرورتها وأهميتها في القضاء على الخطر الإخواني.
وعلى سبيل الخلاصة: يمكن للمدنيين أن يكونوا مصدر تهديد للديمقراطية، أيضاً. وبهذا المعنى، يفتح النموذج التونسي أفقاً جديداً للنقاش.