سرٌّ استمرّ 55 عاماً ويُكشف عنه للمرة الأولى

هارتس : هكذا أحرق الجيش الإسرائيلي عشرات الجنود المصريين وهم أحياء ودفنهم قرب اللطرون في حرب العام 1967

-راز-e1640456043154.jpg
حجم الخط

،، بقلم: آدم راز

أحد أعضاء الكيبوتس نزع ساعة ثمينة من يد أحد القتلى وبقي يلبسها حتى وفاته
،،
،،
أيدٍ وأرجل مقطّعة للجنود المصريين، والجثث لا تزال في قبر جماعي حتى اليوم

أُلصقت صفحتان في نشرة «على الجرف»، وهي الصحيفة الناطقة باسم كيبوتس «نحشون»، ببعضهما في العدد رقم 60، الذي وزع على أعضاء الكنيست بعد انتهاء حرب «الأيام الستة». بعد أن نسخوا في الكيبوتس الكراسات قرر مصدر مجهول إسكات تحفظات أعضاء المحمية فيما يتعلق بأراضي القرى الفلسطينية المجاورة التي هرب سكانها، مؤخرًا، أو طُردوا منها، والتي سُوّيت منازلها بالأرض. تقول ملاحظة مرفقة بنسخة موجودة وغير خاضعة للرقابة من النشرة: «تقرر عدم نشر مداولاتنا على الملأ».
سؤال هل سنحرث جميع الأراضي التي لم يعد لها أصحاب لم يكن هو المعضلة الأخلاقية الوحيدة التي أشغلت أعضاء الكيبوتس في صيف 1967. هناك قضية لا تقل اشتعالاً عنها، وهي ماذا سنفعل بالقبر الجماعي الكبير الذي تم حفره في تلك الفترة تحت الارض التي قام الكيبوتس بفلاحتها في المنطقة الحرام؟
وافق قلائل من أعضاء الكيبوتس على التحدث عن ذلك. من غير الواضح كم هم الذين يعرفون القصة كاملة. من المحادثات التي أجراها «ملحق هآرتس» ومعهد «عكفوت»، مؤخرا، يتبين أنه حتى جهات في المستويات العليا جدا في الحكومة وفي الجيش لم تطّلع على كل القصة بسبب الرقابة المشددة التي تم فرضها عليها عشرات السنين. آخرون، ممن عرفوا عن القضية، رفضوا التطرق لها، ورفضوا السماح بالاقتباس عنهم.
الآن، أصبح من المسموح الحديث عن أنه تم دفن عشرات جنود الكوماندو المصريين الذين قتلوا في حرب «الأيام الستة» في أراضي كيبوتس «نحشون»، واحداً إلى جانب الآخر. وهم ما زالوا مدفونين هناك، كما يبدو تحت الساحة التي استخدمت منذ بداية القرن العشرين منطقة جذب للسياحة إلى «إسرائيل المصغرة».
أول من حطم الصمت هو عضو كيبوتس «نحشون»، دان مئير، الذي توجه الى وسائل الإعلام في التسعينيات. لم تسمح الرقابة في حينه بنشر أقواله. «أعرف أن هذه المعلومات تثير القشعريرة»، قال في حينه. «ليس سوياً أنهم ما زالوا مدفونين. وأننا حولنا هذه القطعة الى منطقة زراعية تماما. هذه القصة تؤلمه، ولا تترك له أي مجال للراحة. لقد مرت ثلاثون سنة تقريبا على الحرب، وأنا أشعر بحاجة الى إزالة هذا العبء. أريد أن يعيدوا المصريين إلى وطنهم». توفي مئير بعد ذلك، وتبين أنه ليس هو الوحيد الذي فكر بهذه الطريقة.
كيبوتس «نحشون» أقامه أعضاء «هشومير هتسعير» في العام 1950 على بعد مسافة قصيرة من دير اللطرون الذي أقيم في نهاية القرن التاسع عشر. في محيطه توجد ثلاث قرى مأهولة وهي بيت نوبا ويالو وعمواس، وكانت الأخيرة الأقرب من الكيبوتس ومن بؤر القتال القصيرة. وقد تم توثيق أحداث تلك الايام في سجلات الحرب. في البداية، تم العثور على قوة صغيرة من الفيلق الأردني في جيب اللطرون، الذي انضم إليه قوة كوماندو مصرية من الكتيبة 33 من وحدة النخبة التي كانت تشمل نحو 100 جندي.
خططت القوة المصرية لاحتلال قواعد سلاح الجوي في اللد وتل نوف والرملة. تمركزت أمامها قوات اللواء القطري 4 التابع للجيش والقليل من قوة الناحل وقوة دفاع من المستوطنات اليهودية. في اليوم الأول للحرب في 5 حزيران، أطلق المصريون قذائف الهاون بهذا الاتجاه. في اليوم الثاني أمر قائد اللواء 4، موشيه يتباك، باحتلال الجيب. خلال ساعتين تم احتلال اللطرون. وبعد بضع ساعات كان سهل أيالون كله في يد الجيش الإسرائيلي. المقدم (احتياط) زئيف بلوخ هو من مؤسسي كيبوتس «نحشون». في الحرب كان يقود المنطقة، وبعد ذلك تم تعيينه حاكما عسكريا للخليل. في مذكراته كتب بأن وحدة الكوماندو المصرية لم تكن محترفة، ولم يتم تزويد المقاتلين بخرائط حديثة. «من المهم ادراك عمق الاضطراب والصدمة والخوف التي كانت تحيق بهم. في ظل غياب قيادة منظمة لم يعرفوا أبدا أين هم موجودون... في الحقيقة، كان جنود الكوماندو ضائعين في المنطقة»، قال.
في 6 حزيران، اليوم الثاني للحرب، حدثت المواجهة الأولى مع المصريين. اختبأ جنود الكوماندو في حقول الشوك التي تحيط بالكيبوتس. نحو 25 جنديا مصريا ماتوا في الحريق الذي اندلع في الحقول في إطار تطويق كتيبة المشاة التي كانت بقيادة المقدم يعقوب ميريا لجنود الكوماندو، وأيضا نتيجة استخدام القنابل الفوسفورية. تبادلات أخرى لإطلاق النار حدثت خلال اليوم وفي اليوم التالي أوصلت عدد القتلى في أوساط المصريين الى نحو 80. الراهب جي خوري، من دير اللطرون، كتب في مذكراته عن جثامين جنود الكوماندو التي كانت «منثورة على طول الطريق». بعض الجنود أسروا من قبل الجيش الإسرائيلي، وبعضهم اندمجوا في قافلة اللاجئين الضخمة، التي خرجت من القرى الثلاث الفلسطينية المجاورة. بعد الظهر في 9 حزيران، في الوقت الذي واصل فيه جنود اللواء 4 الطريق الى محور بيت حورون، وصلت الى القسيمة 5 في كيبوتس «نحشون» قوة صغيرة من الجيش الإسرائيلي ترافقها جرافة. كانت القطعة محترقة كليا بسبب الحريق الذي اندلع في الأيام الثلاثة الماضية. حفرت القوت قبرا في المكان بطول عشرين مترا. لم يتم أخذ أي علامات تشخيص من الجنود المصريين بحيث تمكن في المستقبل من تشخيصهم. احد الجنود الذي تواجد في المكان أحصى نحو 80 جثة. انتشرت شائعة في الكيبوتس تحدثت عن احد أعضاء الكيبوتس الذي نزع ساعة ثمينة من يد أحد القتلى وبقي يلبسها حتى وفاته. عضو آخر من الكيبوتس قال لكاتب هذه السطور، إنه أخذ تذكارا من أحد القتلى وهي بندقية كلاشينكوف.
الكراسة التي نشرت بعد سنة على الحرب باسم «الأيام الستة خاصتنا»، وهي محفوظة في متحف كيبوتس «نحشون»، تضم شهادة صادمة عن الدفن المرتجل. رامي يزراعيل، وهو عضو في الكيبوتس، كتب في الكراسة، «يبدو لي أنه بعد يومين على الحرب تم إدخالي للعمل مع آشر لفلاحة الأرض الحرام... عندما مررت قرب الشارع في الطريق الى القسيمة رقم 5 شعرت بوجود رائحة كريهة من القبر الجماعي الكبير لرجال الكوماندو. ولأنني لم أتمكن من المواصلة بسبب الغثيان فقد قررت فحص هذا الأمر. اكتشفت أيادي وأرجل مقطعة للكوماندو المصريين، التي كما يبدو إصابتها العبوات الناسفة وتهشمت. قمت بدفنها بالمجرفة، لكن هذا لم ينفع، فقد استمرت الرائحة. توجهت الى القبر الجماعي الكبير ويا للذعر، لقد برزت من هناك نصف جثة. غطيتها بسرعة».
مصدر عسكري كان على علم بهذا السر اعترف في محادثة مع «ملحق هآرتس» بأنه هو الذي طلب حظر نشر القضية طوال السنين، لأن كشفها حسب قوله، «كان يمكن أن يثير ضجة إقليمية». وهكذا فإن مقالا في «يديعوت أحرونوت» تعقب دفن الجنود المصريين، تم حفظه حتى في التسعينيات بتعليمات من الرقابة العسكرية. في المادة الخام التي بقيت منه فإن عضو الكيبوتس، دان مئير، قال، إنه في اليوم التالي لعملية الدفن شاهد كومة كبيرة من التراب. «لقد ادهشني أن الجيش لم يحدد القبر، حتى أنه لم يضع لافتة صغيرة»، قال (في المقابل، عضو الكيبوتس ايلي بيلغ، يقول، الآن، إن القبر تم تحديده بشكل مؤقت بوساطة قضيب حديد تم غرسه في الأرض وصمد سنة أو سنتين).
يوسف شرايبر المتوفى، وهو أحد أعضاء الكيبوتس، أضاف في المقال المحفوظ، «ما يؤلم أعضاء الكيبوتس اكثر هو أن «بارك كندا» أقيم على أراضي ثلاث قرى عربية تم تدميرها في الحرب وتم طرد سكانها. موضوع القبر الجماعي يقلقني أقل». ولكن لم يكن لدى شرايبر أي أسئلة حول الأمر الصحيح الذي يجب فعله. «لا شك لدي بأنه يجب التوجه الى الجيش الإسرائيلي ومحاولة إغلاق هذه القضية. أعتقد أنه يجب على كل واحد بذل ما في استطاعته من اجل إعادة المصريين الى وطنهم».
أقوال مشابهة قالها في حينه بنيامين ناؤور المتوفى، «أنا على ثقة بأنه لو دفن بهذه الصورة يهود لكان صراخنا وصل الى عنان السماء. ومن المحتمل أن الجيش الإسرائيلي كان يجب عليه تحديد القبر وتسييجه، لكن هذا لم يحدث. كانت هناك حرب وفي الحرب تحدث أحيانا أمور غير سارة. لا تنسى أن المصريين جاؤوا الى هنا من اجل قتلنا... لكن رغم ذلك أنا لا استبعد إمكانية أنه في الطرف الآخر توجد عائلات مصرية ما زالت تثق بأنهم سيعيدون لها رفات ابنائها.
في حرب «الأيام الستة» وفي «حرب الاستقلال» أيضا تم دفن سكان وجنود عرب ومقاتلين من دول عربية، قتلوا على حدود دولة إسرائيل، في المكان الذي انهوا حياتهم فيه. فقط بعد حرب «يوم الغفران» وعند إنشاء منظومة منظمة انشغلت بالعثور على مفقودين، بدؤوا في تنظيم تبادل الجثامين بين الطرفين، بهذا القدر أو ذاك.
دفن الموتى على مدى السنين كانت له خصائص مختلفة في كل موقع من مواقع القتال. في «حرب الاستقلال» دُفن سكان فلسطينيون أو جنود عرب في مرات كثيرة في الأماكن التي ماتوا فيها. أحيانا على يد جنود «الهاغاناه» أو جنود الجيش أو على يد الفلسطينيين الذين بقوا في المكان. كان الدفن بشكل جماعي ودون تحديد المكان أو جمع معلومات شخصية. جمع الجثث في 1948 من قبل الصليب الأحمر تم فقط في حالات قليلة. لا تدل القبور الجماعية بالضرورة على تاريخ ظلامي أو إخفاء، بل تدل على الحرب التي تسببت بالقتلى. الأموات، سواء كانوا جنودا قتلوا على مدخل كيبوتس، موشاف أو مدينة، كان يجب دفنهم. عمليا، داخل حدود دولة إسرائيل توجد قبور جماعية كثيرة من حرب الاستقلال، مثل القبر الجماعي في الطنطورة الذي كتب عنه هنا، لكن مؤخرا.

طريقتان للدفن
المصير ذاته لاقته جثامين المتسللين، وهو مفهوم جمعت تحته الدولة آلاف الفلسطينيين الذين اجتازوا حدود الدولة وأرادوا العودة الى أراضيهم وبيوتهم في الخمسينيات. وثيقة لقيادة المنطقة الوسطى في كانون الأول 1949، مكرسة لمعالجة جثامين المتسللين، أمرت بالتعامل مع الجثامين بأحد الطرق التالية: إذا قتل المتسللون في مناطق لا يوجد فيها مواطنون عرب فإن «قائد الدورية أو الكمين هم المسؤولون عن الدفن الفوري للجثة في المكان الذي قتلت فيه. يتم دفن الجثة في الأرض وتغطى بالتراب. في حالة أن المتسللين الذين اجتازوا حدود الدولة في منطقة المثلث فإن «الحاكم العسكري هو المسؤول عن إبعاد الجثة من مكان القتل وتسليمها الى أبناء القرى العربية من اجل دفنها».
عن هذا الواقع المخيف شهد لاحقا اسحق بونداك، قائد اللواء السادس الذي وضع في نهاية 1948 في اللطرون.
«ذات يوم تم استدعائي الى جبهة الوسط. في مكتب الجنرال تسفي الون، وبحضور ضابط الاستخبارات، بنيامين جبلي، أمرت بتصفية أي متسلل تصطدم به قواتنا، وإبقاء جثته على الأرض من اجل الردع كي يكون هذا عبرة. كان هذا أمرا غير عادي. لا أتذكر أنه جرى قبل إعطاء الأمر أي نقاش، ولم يتم إصدار أي أمر خطي يقرر بأنه يجب علينا التصرف بهذا الشكل. عن سؤال لماذا لا يوجد أمر خطي أكد الجنرال وضابط الاستخبارات بأنهما يتحدثان باسم رئيس الأركان. رويدا رويدا امتلأت الطرق بالجثث المنتفخة، في حرارة الصيف انبعثت رائحة كريهة، وفي الليل كانت فريسة للذئاب والطيور الجارحة. أسراب من الذباب حددت مكان الجثث. الرائحة النتنة التي انتشرت في المحيط وصلت الى مقراتنا وبدأ الجنود يعانون من وجع رأس ودوار وتقيؤ وصعوبة في التنفس. أحد قادة الكتيبة، من الكتيبة 53 سابقا، الذي شارك في الدفاع عن النقب وفصيله تضرر بشكل كبير، استيقظ وقام بمبادرة، دون أن يطلب المصادقة من قادته، قام بتزويد جنوده بصفائح وقود قاموا بسكبها على الجثث واحرقوها. خلال ساعات احترقت وانتشر الغباء في فضاء الوحدة».
أيضا جثث شهداء العدو دفنت في المنطقة التي قتلت فيها. في وثيقة عسكرية من شباط 1968 والتي خصصت لمسألة «العثور على قبور شهداء العدو» كتب: «نشاطات للعثور على قبور لشهداء العدو تم تنفيذها فقط في وقت قريب من انتهاء حرب الأيام الستة. بالإجمال تم العثور على سبعة تجمعات من قتلى العدو (عدد الشهداء غير معروف)، ولا يشمل منطقة القتال للواء 80».
متنزه سياحي فوق القبر
الى جانب السنين التي مرت أيضا تغيرت الأرض في كيبوتس «نحشون». القبر الجماعي تم حفره في القطعة رقم 5 قرب الحقل الذي احرق فيه عشرات المقاتلين. بعد الحرب قاموا بزراعة القطعة. وفي 1983 زرع في المكان حقل لأشجار اللوز، بعد ذلك تم استبدال هذا الحقل بحقل للقمح، حل المحصول محل محصول آخر، وفي التسعينيات تقرر تغيير استخدام الأرض وأقيم في المكان متنزه سياحي. منذ بداية العام 2002 يستخدم القسيمة 5 المتنزه السياحي الشعبي «ميني إسرائيل».
زئيف بلوخ، أمين صندوق بلوم لتاريخ الصراع، كان متواجدا عند دفن الجنود. في العام 1968 كتب باختصار: «بعد أسبوع على الحرب وجدت جثث مرمية على تلال اللطرون. أخذت مجرفة لدفن بعضها، حيث قام الرهبان بدفن جزء. قبل بضعة أسابيع، مزودا بصور للأقمار الصناعية، نجح في العثور «بالحذر المطلوب» على القبر الجماعي، ومكانه حسب تقديره هو على المدخل الشرقي للمتنزه قرب شارع 424. الجنود تم دفنهم فيما يعتبر الآن حدود «ميني إسرائيل»، وغير بعيد عن الشارع الرئيسي، وأشار الى المكان على الخارطة. أعضاء آخرون في الكيبوتس أكدوا التشخيص.
مصدر مطلع على قضية المفقودين في الجيش الإسرائيلي أكد في محادثة مع «ملحق هآرتس» بأن رجال الوحدة المصرية ما زالوا مدفونين في المكان. وعلى حد علمه لم يقدم في أي يوم طلب لإخراج الجثامين من القبور وإعادتها الى وطنها.
لم يعد بلوخ يعيش في كيبوتس «نحشون». وحسب قوله، إذا لم تكن هناك إمكانية لإعادة الجثث الى دولتها فعلى الأقل هناك مكان لإقامة نصب تذكاري لهم. وقال، إنه إذا كان هناك مصدر رسمي معين يريد بجدية البحث عن القبر فإنه هو الشخص الذي كان يمكن أن يساعد في ذلك. حتى الآن لم يتوجه أي أحد إليه. ربما حان الوقت لذلك.

عن «هآرتس»