لا شك في أن تهديدات الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله بالحرب في حال منع لبنان من الاستفادة من الغاز واستعداده لقلب الطاولة في المنطقة، تتجاوز البلد وتدخل في استراتيجيات وأهداف إقليمية ورسائل إيرانية.
التأهب للحرب وحديث نصرالله عن معادلة جديدة تتخطى كاريش وما بعده، لا يتطابقان مع الأحداث والمواقف في المشهد الإقليمي والدولي والمرتبطة بالمنطقة، ذلك أن الرئيس الأميركي جو بايدن ترك نافذة مفتوحة للجواب الإيراني على ما وصلت إليه المفاوضات حول الاتفاق النووي، وكانت هذه النافذة واضحة في تصريحاته خلال جولته الشرق أوسطية بما يعني استبعاد الحرب أو أي ضربات لإيران قد تشعل المنطقة والعالم، مع التركيز الأميركي والإسرائيلي على مواجهة "الصواريخ البالستية وأذرع إيران في المنطقة".
تجري محاولات أميركية لإقامة تحالفات إقليمية لمواجهة إيران، تحسباً للانسدادات في أفق المفاوضات، وفي الوقت نفسه تعمل إيران على تحصين مواقعها في المنطقة وتركز على ترسانتها من الصواريخ البالستية وتعجّل في رفع نسب التخصيب لإنتاج السلاح النووي، ورغم ذلك لم تقفل مفاوضات النووي، بما يعني ترك مساحة للتواصل، من دون أن يعني ذلك عدم استخدام أوراق القوة في التصعيد لتحسين الشروط عند الوصول إلى صفقات إن كانت تتعلق بالنووي أو بتوزيع مواقع النفوذ في المنطقة. ويأتي تصعيد نصرالله حول الغاز اللبناني في هذا السياق، إذ يبدو أنه من لوازم المعركة وإن كانت عناوينها لبنانية أي حق لبنان في استخراج الغاز من حقل قانا والتوصل الى اتفاق حول ترسيم الحدود، فيما تسعى إسرائيل في المقابل إلى إنشاء تحالف عسكري وأمني لمواجهة إيران. فكل تصعيد له غاية محددة، ولا يرتبط بالضرورة بلحظته وما هو معلن عنه، وقد يكون هدفه تسريع المفاوضات وتحسين الشروط فيها.
هدّد نصرالله بإشعال الحرب بعناوين لبنانية، وهي المرة الأولى التي يتقدم فيها إعلانه مباشرة الى ما بعد كاريش، لكنها تحمل وجهين، أولهما التعجيل لإيجاد حل للترسيم بما يتعلق بلبنان وإسرائيل، وثانيهما قلب الطاولة في المنطقة بالحرب، وهو يتعلق بوضع إيران واستهدافاتها إذا فشلت نهائياً مفاوضات النووي. لكن الأمين العام لـ"حزب الله" استبق المفاوضات غير المباشرة التي يتولاها الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، وأعلن أنه المقرر لبنانياً في الحرب والسلم في غياب الدولة اللبنانية، إنما تهديده بمنع إسرائيل من استخراج النفط من كاريش قبل استفادة لبنان من ثروته وقبل إنجاز الترسيم يدخل في إطار السعي إلى اتفاق، وهو ما يترك أيضاً نافذة مفتوحة على الحل، علماً أن الأجواء الأميركية تشير إلى إيجابيات حققها الوسيط هوكشتاين بقرب التوصل الى اتفاق، وهنا يأتي التهديد في هذا السياق بمحاولة نسب أي تقدم في المفاوضات إلى قوة "حزب الله" ومرجعيته الإيرانية في الدفاع عن لبنان.
وعلى رغم النوافذ المفتوحة أميركياً وإيرانياً، ومن بينها نافذة "حزب الله" حول إمكان التوصل الى اتفاق حول الترسيم، إلا أننا قد نشهد توتراً وعمليات أمنية وعسكرية في المواجهة بين الحزب وإسرائيل، فمسيّرات "حزب الله" فوق كاريش كانت جزءاً أو بروفة أولى لمواجهات بحرية فيما تهديدات إسرائيل بلغت ذروتها، وهي قد تتطور في حال الانسداد الكامل في المفاوضات ودخول المنطقة كلها في مواجهات مباشرة وغير مباشرة، علماً أن كلام نصرالله الأخير يشير في مضامينه إلى أن اطلاق حزبه المسيّرات قد حقق انجازاً وحسّن من عملية التفاوض، وقد يكون هدف التصعيد الجديد الوصول الى اتفاق لبدء لبنان بالاستفادة من حقل قانا مقابل استفادة إسرائيل من كاريش، وعدم الذهاب الى حرب لا تتحملها المنطقة، فكيف بلبنان المنهار؟
في المقابل، ليس تصعيد نصرالله طابعه لبناني أو استهدافاته لبنانية بحتة، بل هي استهدافات بخلفية إيرانية تتعلق بالمنطقة كلها وترتبط بالملف النووي. فإذا كان "حزب الله" قد حسم أنه المقرر في ملف الترسيم وصاحب قرار الحرب والسلم متى شاء، يعني أنه قدم الملف الإقليمي كأولوية على التسوية اللبنانية الداخلية، وهذا جزء من سياسته المرتبطة بمرجعيته الإيرانية ... هنا وظيفة للتصعيد وهناك استهدافات للإنكفاء أو الصمت. وفي المحصلة أنه في ظل مشهد إقليمي مرعب لا اكتراث للدول بلبنان، يذهب نصرالله إلى المعركة الإقليمية من دون اعتبار للملمة الوضع الداخلي اللبناني، وهو يعرض البلد لأخطار كبرى قد يصبح معه ملف الترسيم والثروة اللبنانية في البحر في غياهب النسيان.
ورغم ذلك يبدو ملف الترسيم إذا جرى التوصل الى اتفاق، المدخل لإعادة اهتمام المجتمع الدولي بلبنان، إذ لا اكتراث اليوم لمساعدة لبنان وإنقاذه في ظل عجز القوى السياسية والطائفية وصراعاتها حول الحكومة والرئاسة، فإذا انفجر الملف النفطي ومعه الترسيم الذي يمكن أن ينسحب على الملفات الدستورية، لن يعود هناك اهتمام لإعادة وضع لبنان على جدول الاهتمامات.
لا فرق بالنسبة إلى نصرالله التدقيق في نقطة ضعف عدوه، فالحرب كما يقول: "لديها أفق، إذا اتخذنا قراراً بالذهاب إلى الحرب، من الممكن أن يخضع العدو، قبل الحرب، أول الحرب، من الممكن من نصفها أو آخرها، وتفرض شروطك وتأتي بمئات مليارات الدولارات وتنقذ بلدك". وهو كان واضحاً باستفراده بقرار الحرب والسلم عندما رد على البيان الحكومي حول المسيّرات بقوله: "المقاومة لم تتّفق مع أحد، ولم تقل لأحد أنّها تنتظر المفاوضات، ومن يَعد المفاوض الأميركي إنّما يخدع نفسه"، مؤكداً أنّ "هدف إرسال المسيّرات هو إسقاطها بالصواريخ والبوارج الإسرائيلية، وهي المرة الأولى في تاريخ الكيان الإسرائيلي الذي تطلق باتجاهه 3 مسيّرات في آن واحد وعلى هدف واحد، ونحن قادرون على إرسال عدد كبير من المسيّرات بأحجام مختلفة ومسلّحة وغير مسلّحة، وكنّا جاهزين لردّ الفعل الإسرائيلي".