هآرتس: هل قرر حزب الله الشروع في حرب استنزاف ضد إسرائيل؟

حجم الخط

هآرتس  بقلم: دنيال سوبلمان*

 

بعد 16 عاماً على اندلاع حرب لبنان الثانية، تقف إسرائيل و”حزب الله” في النقطة الأكثر حساسية منذ سنة 2006. يدور التوتر الحالي بين الطرفين حول الخلاف على الحدود البحرية الاقتصادية، ونية إسرائيل البدء باستخراج الغاز الطبيعي من حقل “كاريش”، المتنازَع عليه بين إسرائيل ولبنان. وتقدم الخطة الإسرائيلية في لبنان كمحاولة لسرقة الحقوق الاقتصادية لهذه الدولة التي تعاني من أصعب وضع اقتصادي شهدته في تاريخها.

منذ دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في 14 آب 2006، تُدار العلاقات بين الطرفين في إطار “قواعد اللعبة” والردع المتبادل. إلّا أن الطرفين يعيشان أزمة متصاعدة في الآونة الأخيرة، تنطوي على خطر انزلاق حقيقي إلى مواجهة. ففي 5 حزيران رست منصة الغاز التابعة للشركة اليونانية “إنرجيان” في النقطة الخاصة بها بالقرب من حقل “كاريش”، وبعد 4 أيام، صرّح الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، بأن حزبه “لن يقف مكتوف الأيدي من دون أي يفعل شيئاً” أمام “سلب المورد الوحيد والأمل الوحيد للشعب اللبناني”. كما طالب بإيقاف جميع التحضيرات لاستخراج الغاز، الذي من المتوقع أن يبدأ في أيلول. وحذر من أن لدى حزبه القدرة على وقف استخراج الغاز، وأن “جميع الخيارات مطروحة، من دون تردد”. وفي نهاية حزيران أطلق “حزب الله” طائرات مسيّرة باتجاه المنصة، في إشارة إلى خطوات عملية أولية.

أعلن نصر الله في 13 تموز خطوة جدية إضافية، وصرّح بأن حزبه ينوي التصعيد، بالتدريج، في الأسابيع المقبلة، بهدف فرض حل دبلوماسي يضمن حقوق لبنان، أو يوقف الخطوات الإسرائيلية، ولو كان الثمن حرباً. ويحمل النزاع الحالي طابعاً تصعيدياً هو مزيج من تهديد موثوق فيه، ووقت ضاغط، وخطر لتبادل الضربات التي من الممكن أن تخرج عن السيطرة. ويحدث هذا كله في الجبهة البحرية حيث إن الطرفين غير معتادين على ذلك. فـ”حزب الله”، الذي بدأ يتسلق سلّم التصعيد، يطرح الموضوع بمصطلحات مصيرية. ونصر الله، الذي يرى في أزمة الطاقة العالمية فرصة للبنان، فهم أنه في حال بدأ استخراج الغاز في أيلول، سيبقى لبنان من دون قدرة على المساومة.

من الممكن في الفترة المقبلة أن يفضل “حزب الله” الدفع بإسرائيل إلى حرب استنزاف، بهدف عرقلة، أو تأخير، أو منع تشغيل المنصة، من دون الانجرار إلى مواجهة واسعة. وبهذا، يتحول حقل “كاريش” إلى شبيه بحري بمستوطنات غلاف غزة. وفعلاً، هناك أوجه شبه بين الحالتين. وللتذكير، أدت محاولات إسرائيل الدفع بالفصائل الفلسطينية إلى ترك مستوطنات الغلاف، منذ منتصف سنة 2018، إلى عدة جولات عسكرية اقتصرت على مستوطنات غلاف غزة، لكنها أحياناً انزلقت جنوباً حتى 40 كيلومتراً من القطاع وهددت بالانزلاق إلى غوش عتصيون. وعندما وقفت إسرائيل أمام خيارين، إما حرب استنزاف ثابتة في غلاف غزة، وإما استخدام القوة، وصولاً إلى حملة عسكرية، اختارت إمكان تقديم بادرات وتنازلات اقتصادية جدية لـ”حماس” وقطاع غزة. من جانبها اختارت “حماس” استغلال الجولات التصعيدية بهدف عرض قدراتها الصاروخية.

على إسرائيل أن تأخذ بالحسبان أنها ستكون قريباً أمام تحدٍّ شبيه، ولو كان أخطر بكثير، في الشمال. فكما أمِلت “حماس” كسر الوضع القائم من دون الانجرار إلى تدهور شامل يطمح نصر الله اليوم إلى أن يفرض على إسرائيل تغيير سياستها من دون الانجرار إلى حرب. لكن إذا أردنا الحكم استناداً إلى تصريحاته العلنية، فإن عدم وجود الرغبة لديه في إشعال الحرب لن يمنعه من المخاطرة باحتكاك. فكما شرح في خطابه الأخير، فهو يفضل الحرب على استمرار الاتجاه الحالي. والمرة الأخيرة التي كان لدى قيادات “حزب الله” هذا النمط من التفكير، كان هذا قبل اندلاع حرب لبنان الثانية، حينها كان الحزب يواجه محاولة دولية لنزع سلاحه.
منذ سنة 2006 سُجلت عدة مناوشات بين إسرائيل و”حزب الله” حول “قواعد اللعبة” المسموح بها، ووصل الطرفان إلى تفاهمات تستند إلى معايير معينة تعتبر “مقبولة”، وبينها استثناء لبنان من المعركة بين الحروب. فمثلاً اكتفى “حزب الله” بردود محدودة رداً على اغتيال رجاله في سورية، الهدف منها الحفاظ على “قواعد اللعبة”. والآن، يحذّر “حزب الله” من أن المسيّرات التي أطلقها باتجاه منصة الغاز، حيث أسقطها الجيش الإسرائيلي، لم تكن إلا “بداية متواضعة” لخطة، الهدف منها زعزعة الوضع الاقتصادي القائم، ولو كان الثمن حرباً.

يبدو أن “حزب الله” يشير إلى نيته المخاطرة بحرب شاملة بهدف ردع إسرائيل عن تخطّي سقف معين. لكن يبدو أن الحزب يعتقد أن التهديد بمواجهة سيعود عليه بإنجازات إستراتيجية. يتحدث نصر الله للمرة الأولى، علناً، عن حرب ضرورية لخدمة أهداف سياسية، بينما يهدد بعرقلة تزويد أوروبا بالطاقة، ليس أقل من ذلك.
وأبعد من دلالات مثل هذه المواجهة في السياق الإسرائيلي – اللبناني، يجب الأخذ بعين الاعتبار التغييرات في الواقع الإقليمي الجيو – سياسي. فإن كان نصر الله شرح في كانون الثاني 2000 أنه سيعمل على محاربة التطبيع في حال توقيع اتفاق سلام بين إسرائيل وسورية ولبنان، فإنه اليوم رأس حربة في “محور المقاومة” – معسكر إقليمي يحاول إقامة حلف ضد الغرب. هذا المعسكر الذي تشكل إيران القوة المركزية فيه، يضم سورية و”حزب الله” وقطاع غزة وميليشيات في العراق، بالإضافة إلى الحوثيين في اليمن. لذلك، ستكون للمواجهة المحتملة تداعيات على المنافسة الإستراتيجية بين إسرائيل ومحور “المقاومة” برمته.

المرات التي التزم فيها نصر الله بالقيام بعملية عسكرية خلال العقود الثلاثة التي تزعم فيها الحزب قليلة ومعدودة. في 25 نيسان 2006، توجه نصر الله إلى سمير القنطار، الذي كان أسيراً في السجون الإسرائيلية، وقال: أشدد أمامك على أننا سنلتقي في وقت قريب جداً جداً جداً… ستعود بفضل بندقية المقاومة، دم المقاومة، وعملية من عمليات المقاومة”. حينها، كان الاهتمام بأقواله قليلاً في إسرائيل، ولم يفهم مغزى تهديده جيداً. بعد شهرين ونصف الشهر، اندلعت حرب لبنان الثانية، التي كلّفت “حزب الله” أثماناً باهظة، لكنها رسخت مكانته كتنظيم عسكري، وساعدت في تحوُّله إلى لاعب إقليمي. السبت الماضي، أعلن المسؤول الكبير في “حزب الله”، محمد رعد: لا نريد الحرب، لكن في الأيام المقبلة سترون قوتنا”.

إذا كان الطرفان فعلاً في بداية مرحلة جديدة، فمن المفضل أن يضع متخذو القرارات في إسرائيل أهدافاً إستراتيجية واقعية، تأخذ بعين الاعتبار أنه كما حدث في قطاع غزة يمكن أن تجد إسرائيل نفسها مقابل “حزب الله” أيضاً أمام خيارات “استنزاف” محدود، أو اشتباك عسكري يمكن أن ينعكس على المنطقة برمتها.

* أكاديمي إسرائيلي، وباحث في جامعة هارفارد.