مع ملاحظة تواصل العمليات العسكرية الإسرائيلية داخل المدن الفلسطينية المحتلة، يمكن القول بأن تلك العمليات لا تشكل فقط خرقاً لاتفاقيات أوسلو التي تحظر على القوات الإسرائيلية اقتحام المدن الفلسطينية أو ما يسمى بمناطق ألف، دون تنسيق أو توافق مع السلطة الفلسطينية، بل إنها تؤكد استحالة التعايش بين الاحتلال والمحتلين، واقتحام مدينة نابلس القديمة بعد عمليات اقتحام لجنين خلال الأسابيع السابقة، يعني بأن إسرائيل تجمع معلوماتها الأمنية بما يفيد بأن صدور الفلسطينيين تغلي، وأنها تظن بأنها بتلك الاقتحامات تشن حرباً استباقية، تمنع من خلالها اندلاع المواجهة الشاملة، أو ما يمكن تسميته بحرب الاستقلال، التي لا بد من وقوعها في نهاية المطاف، خاصةً مع انسداد أُفق الحل السياسي، حيث لم يعد الأمر مقتصراً على توقف التفاوض منذ ثمانية أعوام وحسب، بل إن الراعي الأميركي الذي كان آخر أمل في الضغط من أجل إعادة التفاوض مجدداً، أعلن بصريح العبارة بأن حل الدولتين بعيد المنال.
إن التواطؤ الأميركي والانحدار العربي يساهم في إطلاق يد الاحتلال الإسرائيلي لارتكاب جرائم الحرب، كذلك لأن رد الفعل الدولي على ارتكاب إسرائيل لجريمة الحرب بقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة على الملأ، لم يصل الى درجة جرها الى المحكمة الجنائية الدولية، والى معاقبتها على تلك الجريمة، فقد شجع ذلك إسرائيل على مواصلة ارتكاب عمليات الإعدام الميداني للشبان الفلسطينيين، في نابلس وجنين وغيرها، وفي حقيقة الأمر طالما لم يقم أحد ما بردع المجرم فإنه من الطبيعي أن يواصل جرائمه، وهكذا فإن إسرائيل ستواصل ارتكاب جرائمها، بما يزيد من غليان حالة الاشتباك بينها وبين الشعب الفلسطيني، الذي يبدو أنه فعلاً قد بدأ حرب استقلاله عن دولة الاحتلال.
ولم يعد أمر المواجهة متقطعاً أو متأثراً فقط بظروف محددة، فلم يعد المشهد مقتصراً على القدس، بأحيائها وأماكنها المقدسة، كما أنه لم يعد مقتصراً على شهر رمضان أو الأعياد الدينية، سواء كانت إسلامية او يهودية، بل إن حالة المواجهة متواصلة ومستمرة، وصحيح أنها لم تصل بعد لمستوى ان تشمل كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية المحتلة معاً وفي آن واحد، لكن تواصلها يذكر بما كان عليه الحال عشية الانتفاضة الأولى، حيث إن تراكم الإجراءات الاحتلالية أدى الى ذلك الانفجار الشعبي العظيم، كما يمكن القول إن الشعب الفلسطيني قد راكم كفاحه على مدى العقود والسنين، بحيث انه بثورته المسلحة قد طوى صفحة تبديد الهوية، وأطلق فلسطين للحضور الى جغرافيا السياسة الدولية والإقليمية، في حين ان انتفاضة العام 1987، قد وضعته على خريطة جغرافيا الوطن، ووفرت له موطئ قدم على أرضه، بإنشاء أول سلطة فلسطينية مستقلة على بعض ارض فلسطين. كما يمكن القول، بأنه ما بين إعلان الاستقلال وبدء حرب الاستقلال، لتحقيق الإعلان على الأرض، هناك دائماً مسافة طويلة، وصحيح ان الاحتلال الإسرائيلي اليوم هو آخر وأطول احتلال منذ الحرب العالمية الثانية، لكن لا يمكن أن ننسى بأن الجزائر استقلت عن فرنسا بعد 130 سنة احتلال وضم، كذلك استمرت حرب استقلالها ثمانية أعوام متواصلة سقط خلالها مليون ونصف مليون شهيد على ذلك الطريق.
يمكن لنا هنا ان نستذكر ما قاله الرئيس الأميركي الذي يتشدق ليل نهار بحل الدولتين، إلى أن قال بأنه مع ذلك يعتقد بأن ذلك الحل بعيد المنال، وهذا يعني مباشرة القول للشعب الفلسطيني "دبر راسك"، ورغم كل ما تسرب بعد ذلك من "نصائح" من قبله للرئيس الفلسطيني مضمونها ان يعيد حساباته نظراً لما طرأ من تغيرات على العالم والإقليم، نقول بأن تلك التغيرات لم تكن باتجاه واحد، فهي لم تقتصر على ما حققته إسرائيل من اختراق للعالم العربي، بل إنه بالمقابل، أظهر تآكل النظام العالمي أحادي القطب، حيث ظهرت دول إقليمية وكونية تتحدى أميركا وإسرائيل، بل هناك داخل أميركا وأوروبا، تحول شعبي في الموقف من الاحتلال والعنصرية الإسرائيلية.
وإذا كان العديد من المراقبين يقولون بانسحاب أميركا الظاهر للعيان من الشرق الأوسط، بل ومن العديد من مناطق العالم، مع ظهور الصين وروسيا، والى حد ما أوروبا، كأقطاب دوليين، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، فعلى إسرائيل التي قامت وظلت تعتمد في بقائها كدولة عنصرية وفي بقائها كدولة احتلال، على جانب من طرفي معادلة الحرب الباردة، أن تدرك مغزى دخول العالم أجواء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، ومع تحول شعبي غربي فيما يخص التأييد التلقائي لإسرائيل.
ولعل محاولة إسرائيل تحقيق المستحيل من خلال جمع المتناقضات، منذ بدء الحرب الروسية/الأوكرانية، يظهر كيف حاولت إسرائيل أن تخرج عن الموقف الأميركي والغربي عموماً بعدم الانحياز لطرفهم في تلك الحرب، ولم يكن ذلك لأنها فقط تريد أن تُبقي على التوافق بينها وبين روسيا فيما يخص تدخلها في الشأن السوري، باستمرار عمليتها العسكرية، سواء من خلال إقدام طيرانها على تنفيذ عمليات عسكرية، او من خلال إطلاقها الصواريخ ضد أهداف سورية داخل الأرض السورية، ولأنها تعرف جيداً بأن أميركا تخرج من الشرق الأوسط، وروسيا تعود اليه، وكان ذلك جلياً على أرض سورية، حيث لا يكاد الوجود الأميركي في شمال سورية مع أكراده يذكر، مقابل الوجود الروسي الذي حمى النظام وألحق الهزيمة بعدوه من الجماعات العديدة المسلحة.
نحن نقول بأن ذلك الموقف الإسرائيلي كان واحداً من أسباب زيارة جو بايدن الأخيرة للمنطقة، حيث قدم كل تلك التنازلات لإسرائيل مقابل أن تقترب من الطرف الغربي في الحرب على الحدود الأوكرانية، وبعد أن اتخذت إسرائيل قرارها بتقديم مساعدات عسكرية للنظام الأوكراني، رد الروس بإغلاق مقر الوكالة اليهودية، حيث جُن جنون إسرائيل، لكن ذلك القرار الروسي في حقيقة الأمر يطلق السؤال حول وجود مثل تلك الوكالة الاستعمارية، ليس في روسيا وحسب، ولكن في أي مكان، بل يطرح السؤال حول وجاهة او قانونية وجودها "من أصله" وهي مهمتها تقوم على تهريب مواطني دول مستقلة كاملي الحقوق المدنية والسياسية، من دولهم لإسرائيل، فقط لأنهم يهود، أي أن جوهر مهمتها هو عنصري، بقطع الطريق على اندماج اليهود في دول ديمقراطية ومستقلة، لا تمارس التمييز بينهم وبين غيرهم، وذلك بتعزيز الوازع الديني، وإسقاط الرابط القومي. ولعل هذا البعد هو الذي أغضب رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد، فيما طرح هذا التساؤل على بساط البحث بات ممكناً، بل وواجباً، للتذكير مجدداً بطبيعة دولة إسرائيل.