نتائج التوجيهي ومأزق النظام

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 

لا أعرف كيف يمكن أن يحصل طالب توجيهي على أكثر من 99%، وهي نسب باتت تتكرر في الآونة الأخيرة كأرقام غريبة عن أبناء جيلنا عندما كان يحصل الأول على فلسطين على نسبة في أواخر الثمانينات أو أوائل التسعينات بالكاد، كانت تلك نسبا معقولة إذ  توزع جداول العلامات وفق منحنى بياني بشكل يعرفه متخصصو التربية حيث نسبة قليلة جداً تصل للتسعينات ومثلها نسبة الرسوب ويتركز الثقل في نسبة السبعينات. لكن ما بات يحدث في السنوات الأخيرة خارج السياق الطبيعي.
لا أعرف هل نفرح لحصول عدد كبير من الطلاب على أكثر من 99% أم نحزن، لأن الأمر خارج المنطق فالكمبيوتر وحده يمكن له تخزين المعلومات بتلك الدقة، أما العقل البشري كما هو معروف لدى علماء النفس لا يمكنه فعل ذلك.
ولكن إذا قلنا إن هناك أسئلة وأجوبة وإن تصحيح الامتحانات أعطى تلك الأرقام ولا مجال للنقاش حينها يمكن أن نكون أمام معادلة مختلفة وهي معادلة الحفظ ومسابقة الحفظ ليس أكثر وليس المنافسة على الذكاء والقدرات، وهنا المسابقة تكون على قوة الذاكرة وقدرتها على النقل وليس على الإبداع فالعقل البشري وظيفته الإبداع وليس الحفظ وخاصة في عصر توفرت فيه أجهزة تحفظ أي شيء وبأقل الأسعار.
أكتب منذ سنوات طويلة ولو طلب مني إعادة قراءة ما كتبت وتقديم امتحان بكل كلمة بالتأكيد لن أحصل على 99%، ولا يمكن لأي مؤلف كتاب أن يعيد نصاً ما كتبه وهذا طبيعي فما الذي يحدث؟ ولماذا أصبح هذا الشيء غير المنطقي فقط بعد أن حكم الفلسطيني نفسه وتسلم مسؤولية التعليم؟ وهذه النسب لا نجدها في أي دولة في العالم وتلك تعكس خللاً في النظام التعليمي لذا نجد فارقاً بين نسبة الطالب في التوجيهي ونسبته التي يحصل عليها في الجامعة، فإذا كان الأمر يحدد مستوى ذكاء الطالب لماذا لا نجد تلك النسب الهائلة في الجامعات لنفس الطلاب؟
حشو المعلومات والمسابقة على قوة الذاكرة، القدرة على النقل وليس استعمال العقل وتلك أزمة أمة بكاملها يغيب عنها العلم وينكفئ العقل والإبداع، وليس من الصدفة أن تحتكر ذيل القائمة في كل شيء فيما العالم يخطو نحو المستقبل ويسطر الذرة ويخترع لقاحات للأمراض ويصل للقمر ويحدث ثورة في عالم التكنولوجيا والتواصل بين البشر ونحن بقينا مجرد مستهلكين لأننا ببساطة لم نتعلم الإبداع، حفظنا عددا من الكتب فقط، هذا كل ما كان لدينا وتلك مهمة لم تكن تستدعي إعمال العقل. وحين بدأنا مواجهة الحياة اكتشفنا أنها تحتاج لاستعمال العقل في كل لحظة بعد أن كان قد اعتاد على الكسل لسنوات طويلة أو تمت إعادة برمجته وتربيته لوظيفة محددة وهي تحويله إلى مخزن أو كاسيت أو قرص CD أو فلاش.
نظام التوجيهي هو نظام غريب قامت العديد من الدول بإلغائه، وحتى في فلسطين في المدرسة الأميركية يتوزع التوجيهي على ثلاث سنوات يراكم فيها الطالب جهدا متواصلا ولا نستفيد من تلك التجربة، هذا غير المنهج التعليمي القائم على البحث عن معلومات من كتب خارج المنهاج. فماذا يعني أن يرسب طالب في لحظة ما لأنه تعرض لارتباك في احد الامتحانات أو كان مريضاً في ذلك اليوم، هذا يعني أن جهد ومثابرة 12 عاماً ذهبت سدى  بكل تكاليفها ومعاناتها ذهبت صدفة لحظة، ماذا يعني أن ينجح طالب كل مراحل الدراسة لسنوات طويلة وفي مسابقة النهاية نقول له، انتهى مستقبلك، فيما كانت تجربة الطالب ناجحة على مدار كل تلك المراحل؟ هناك خلل.
ذات مرة عندما كنا ندرس الإعلام في أحد الامتحانات فاجأنا الدكتور القدير يوسف شعبان لبد بأن الامتحان يتطلب الاستعانة بالكتاب، وهو كتاب قيم من تأليفه بعنوان «المدخل للاتصال بالجماهير في إطاره الاجتماعي»، والكتاب كان كتاباً في فلسفة الإعلام وليس من المبالغة القول، إنه أحد أهم الكتب في التخصص بالنسبة لي، أملى علينا ثلاثة أسئلة كانت تلك مفاجأة وبعد الاستعانة بالمنهج النظري الكتاب الذي أمامنا كانت النسبة الأعلى 74% ثم الباقي في الستينات والخمسينات مع رسوب واحد وعندما راجعنا الدكتور قال، أريد أن أختبرك كذكي قادر على مواجهة المشكلات مستعيناً بكل الكتب التي ستكون في مكتبتك ولست هنا لاختبارك كأرشيف.
كان الدكتور يحتفظ بعشر علامات للحضور والغياب وعندما قلنا إن هذا يليق بتلاميذ الابتدائي احتج بشدة قائلاً، «بالعكس هذا احترام لعقولكم فأنتم حضرتم واستمعتم واستفدتم من النقاش وأصبح لديكم حصيلة معرفية من هذا النقاش تماماً كما تحضرون المؤتمرات والورش» كانت للرجل فلسفة خاصة في التعليم كواحد من أقوى من ترك بصمة لطلاب الإعلام ولكنه لم يجد له حظاً في عالم يتوارث النقل ويسرح العقل في إجازة تعليمية دائمة.
يصاب طلابنا الذين يسافرون للدراسة بصدمة مما هو مطلوب منهم وخصوصاً في الجامعات المتقدمة حين يُطلب منه نمط مختلف عما هو لدينا، قديماً كان المسلمون الأوائل يقسمون المناهج والعلوم إلى نوعين، العلوم النظرية - التطبيقية والعلوم الإنسانية، كانوا يختبرون ذاكرة الطالب فإذا ما كانت قوية يذهب للعلوم التطبيقية كالرياضيات والأحياء والطب والنحو وعلوم الشريعة وهي مواد تتطلب الحفظ دون تدخل كبير من الطالب فقط يطبق دون إبداء وجهة نظر، أما إذا كان أقرب للعقل والفهم يذهب للعلوم الإنسانية والتي تدرس المجتمع وحركته والسياسة والفلسفة وهذه العلوم تتعامل مع متغيرات وتتطلب حلولا لإشكاليات تنشأ هي وليدة ظروف وتطورات واختلاف أزمنة، حينها كان المجتمع والتعليم أكثر سوية ومن الواضح أن التوجيهي في بلادنا يقيس اختبارات تطبيقية فقط بطريقة الحفظ لذا ليس من الغريب أن تلغي وزارة التربية والتعليم مادة المنطق وهي كانت أساسية لتعليم التفكير.
من الطبيعي أن يشهد التعليم خللاً كبيراً ربما أن المتخصصين أقدر على الوقوف أمامه وهو نتاج حالة عامة يتكامل فيها الخلل ارتباطاً بهرم بوخوروف الذي وضع واحدة من أبرز نظريات تفسير المجتمعات عندما يقف مقلوباً على رأسه لا متسع لهرم صغير داخله يقف على قاعدته والعكس صحيح.
لدينا خلل بنيوي في السياسة والتشريع والقضاء والصحة وحقوق الإنسان وكل شيء. وليس التعليم سوى منتج لكل ذلك كما أن التعليم في دول متقدمة يقف هرمها على قاعدته لنا فهي تتطور وتكتشف ونحن نقف كما كل عام أمام اختبار أبنائنا كأرشيف وانتهى....!!!