تخبرنا العظام والحجارة والحمض النووي تاريخ البشرية الممتد، وقصة أسلافنا الأقدمين، بتفاصيلها الدقيقة والمدهشة.
من إفريقيا بدأنا، وفيها قضينا أغلب وقتنا من تاريخنا الطويل، ثم انتشرنا عبر العالم كله في رحلة مثيرة وشاقة.
بدأت رحلة "الإنسانية" حينما اكتمل نمو الدماغ البشري، وصارت له قشرة خارجية تتيح لصاحبها التفكير، والتمييز، والتبصر، والإدراك، واتخاذ القرارات الصحيحة، بعد أن كان البشري ولفترات طويلة يعتمد فقط على جذع دماغه البدائي، فيتصرف وفقاً لغرائزه، ورغباته ومخاوفه (دون وعي).
تبلورت الإنسانية حين امتلك الإنسان لغة (ثم لغات)، وصار له منزل، ثم قرية فمدينة، فدولة (ثم دول) وابتدع نظمه الاجتماعية، وأعرافه، وقيمه، إلى أن أطّرها بالقوانين والدساتير.
تطورت "الإنسانية" بعد أن انتقل الإنسان من مرحلة الصيد وجمع الثمار، إلى الزراعة، والاستقرار ثم التجارة والصناعة، وصولاً إلى التكنولوجيا الحديثة.. وخلال هذه الرحلة الطويلة، طور علومه ومدنه وأساليب عيشه، والأهم أنه طور منظومته الأخلاقية والقيمية.
امتدت تلك الرحلة من النقش على الحجر، إلى النقر على الكيبورد، ومن اختراع الإبرة والمعول إلى اختراع الروبوت، ومن صناعة الأواني الفخارية إلى إطلاق مسبار "جيمس ويب".
لكنها لم تكن رحلة مشمشية، كانت رحلة مخضبة بالدماء والعذابات والآلام، تعرض فيها البشر لانتكاسات كثيرة، وخاضوا تجارب مريرة وقاسية، فاخترعوا الحروب والتدمير، والعبودية، والإقطاع، والتعصب المذهبي والطائفي والقبلي، ومارسوا الجريمة وسفك الدماء، واقترفوا الإثم والعدوان.. اقترفوا كل هذه الشرور مرة باسم العرق، ومرة باسم الدين، وباسم التحضر.
كانت أول انتكاسة تحول البشرية من عصر الأمومة (الماتريرك) إلى مجتمعات الذكورة (الباتريرك).
ولكن، مقابل هذا التيار الشرير كانت البشرية تنحاز إلى إنسانيتها، وترجع إلى عقلانيتها، فتهذب من سلوكها. وفي كل مرة بعد كل انزلاق تخرج الأصوات المنادية برفع الظلم، ووقف العدوان، واحترام آدمية الإنسان وحقه في الحياة الكريمة.
يزعم البعض أن الإنسانية نشأت مع الحضارة الغربية (أو اقترنت بها)، وهذا ادعاء غير صحيح؛ فالحضارة الغربية سرعان ما انقلبت إلى حروب أهلية، والثورة الصناعية سرعان ما أنجبت الرأسمالية المتوحشة، والتي تحولت لاحقاً إلى نيوليبرالية أشد توحشاً، كما أن الحضارة الغربية أنتجت الجريمة المنظمة، وتورطت في الحروب، وفي الحملات الاستعمارية، وحملات التطهير العرقي، والاتجار بالبشر، ويمكن أن نعدد الكثير من مثالبها ومساوئها.. لكن يجب أن نقر بأنها أنجبت أهم النظريات الفلسفية والإنسانية والتنويرية، وأنتجت العلوم والمخترعات والفنون والآداب، وساهمت في تقدم الطب وتخليص البشرية من الأوبئة الفتاكة.. وصولاً إلى إنجاز شرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي.
كانت مشكلة الإنسان الأولى كيفية التعامل مع البيئة ومع البشر الآخرين؛ فهما المشكلة والحل في الوقت ذاته، قد يتحولان إلى عدو قاتل، وقد يعني وجودهم الأمان والراحة والغذاء والتكاثر.. في البداية أدار الإنسان علاقاته الاجتماعية بشكل رئيس عبر العواطف: الحب، الكراهية، العنف، الخوف، التقارب، التعاون.. ولما أصبحت العواطف غير كافية لإدارة هذه العلاقات اخترع البشر قوانينهم من خلال العادات والتقاليد والأعراف، وهي في كل الثقافات تدور أساساً حول ثلاث مسائل: تنظيم العنف، والذي أدى إلى تحريم القتل، تنظيم الإنتاج والثروة والذي أدى لنشوء الـمُلكية، وتقنين الجنس وحدوده والذي أنتج الأسرة والمجتمع.
وكانت العواطف البدائية ونتائج الأفعال التي يقوم بها الأفراد وتداعياتها على الغير (المصلحة) تعمل كابحاً ومنظماً كأداة تنظيم صارمة للعلاقات بين البشر كما تفعل القوانين الآن. (فضل عاشور).
وطوال مسيرة البشرية ظل الإنسان عبر الفلسفة والتأمل والأديان يحاول الإجابة عن أسئلته المحيرة، وفهم المتناقضات من حوله: الحياة والموت، النقص والكمال، الشك واليقين، الوعي والوجود، الفراغ والمادة، السعادة والشقاء، الشخص والغير، الفرد والمجتمع، الجمال والقبح، الحرية والمصير.
في علاقته بالبيئة المحيطة، تغيرت العلاقة من خوفه منها، وعبادتها، وبقائه رهيناً لتقلباتها، وظواهرها المدمرة، إلى أن تمكن من فهمها، ثم الوقاية منها، إلى أن سخّرها لمصلحته، وطوّعها لخدمته، أي بعد أن اهتدى للعلم.
لآجال طويلة ظل العلم محبوساً في سراديب التابوهات، والأفكار الغيبية، والتفسيرات السطحية.. مع أن العلوم والاختراعات بدأت مع السومريين والمصريين القدماء، والفلسفة بدأت مبكراً (في اليونان)، إلا أنها لم تكن سوى الإرهاصات والمقدمات التأسيسية لما سيأتي لاحقاً، أي العلم التجريبي.
ومنذ عصر النهضة وحتى الآن اعتمد العلم على الفيزياء، باستخدام الرياضيات بوصفها لغة الكون والتي من خلالها يمكن وصف العمليات والمعادلات والنظريات العلمية.
قبل مائتي ألف سنة كنا مجموعات صغيرة هائمة على وجهها تواجه ببطولة نادرة خطر الانقراض، اليوم نحن على وشك إتمام المليار الثامن.. وكنا نسكن الكهوف والأدغال، اليوم بنينا المدن الذكية والعملاقة.. وكان بين كل اختراع واكتشاف مئات السنين، اليوم في كل دقيقة نسمع عن اكتشاف مثير، أو اختراع جديد، يسهّل علينا حياتنا، ويمنحنا المزيد من الرفاهية والأمان.
لكل ما وصلنا إليه من تقدم وتطور، نحن مدينون لتلك العائلات الأولى، التي كانت ترتجف برداً في البراري، وتنام خائفة في مغارة مظلمة، تبحث عن وجبتها التالية، ومكان يقيها وحوش الفلاة.. مدينون لمن روّض النار في ذلك الماضي السحيق، ومدينون لأول امرأة اخترعت الإبرة، ولأول رجل اخترع الرمح والصنارة، وللفلاح الذي زرع أول بذرة، وللأم التي خبزت أول رغيف، وللمهندس الذي اخترع الدولاب، وللبنّاء الذي شوى الطين، وبنى أول مدماك.. لولا هؤلاء لما كنا اليوم.
ومدينون للكيميائي الذي اكتشف العناصر، وللفيزيائي الذي فهم بنيتها، وللبيولوجي الذي اكتشف الخلية والحمض النووي، وللطبيب الذي فهم أسرار الجسد.. مدينون لأول من سنَّ القانون، ولمن تأمل الكون، وللفنان الذي رسم غزالاً على جدار كهف معتم، ولمن أضاء أول شمعة، ولمن اكتشف قوى الطبيعة من كهرباء وأمواج كهرومغناطيسية وإشعاعات غير مرئية.. ومدينون للأنبياء والرسل والمصلحين والرهبان الذين أضاؤوا مشعل التنوير والهداية.
مدينون لمن اخترع المقلوبة والملوخية.. ولمن اكتشف القهوة، ولمن اخترع الموبايل وجلاية الصحون، والمكيّف.. مدينون لمن روّض الخيل والجِمال، ولمن اخترع المحرك البخاري، والسيارة، مدينون للراعي الذي ثقب القصب وصنع منه الناي، مدينون لفيروز وعبد الحليم، ولمن ألف أول مسرحية، ولمن أخرج أول فيلم، ولمن حكى أول رواية، ولمن صمّم أول دبكة، وأول رقصة، ومن زرع أول وردة، ومن التقط أول صورة.. لولا هؤلاء لكانت حياتنا جحيماً.
مدينون لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.