منذ فترة، يجري البحث في إطار الفصائل، وبمبادرة من الجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي، في خطة ترمي إلى فتح معبر رفح الذي لم يُفتح طوال العام المنصرم سوى واحد وعشرين يومًا، وما يعنيه ذلك من معاناة هائلة للغزيين، وخصوصًا المحتاجين بشدة للسفر من أجل العلاج والدراسة والعمل وغيرها.
فجأة، لاح ضوء في النفق من خلال إعلان الحكومة في اجتماعها الأخير عن موافقتها على خطة الفصائل، وشكّلت لجنة للبحث في هذه الخطة، وكيفية تطبيقها. كما تستعد اللجنة لزيارة القطاع.
للوهلة الأولى، تبدو العقبة الأخيرة المتبقية هي موافقة حركة حماس التي صدرت عنها مواقف متعارضة: بين قائل منها إن «حماس» بانتظار استلام الخطة رسميًا للرد عليها، وبين قائل إن «حماس» لا يمكن أن تعارض أي شيء من شأنه أن يخفف أعباء الحياة عن المواطنين، وقائل إننا لسنا بحاجة إلى مبادرات جديدة، وإن الحل يكمن في تطبيق «اتفاق القاهرة» كرزمة واحدة، وهو يتضمن حلًا لمعبر رفح، ولكافة القضايا الأخرى، ما يعني رفضًا مؤدبًا للخطة.
موقف «حماس» يبدو غريبًا، فهي كانت في فترة من الفترات موافقة على تسليم المعبر للحكومة وحرس الرئيس من دون شروط، وفي فترة سابقة اقترح أحد قادتها البارزين أن تستلم مصر المعبر من الجانبين، وعندما أتت لحظة الحقيقة نراها مترددة، أو الأصح سلبية، وموقفها في هذه القضية لا تستطيع تبريره أو الدفاع عنه كعهدها في قضايا أخرى، مثل تشكيل حكومة الوفاق التي أبدت مرونة شديدة نحوها، حيث حلّت حكومتها وقبلت حكومة شكّلها الرئيس عمليًا، وأعلن أن برنامجها برنامجه؛ وذلك لكي تتخلص من مسؤوليات حكومتها، خصوصًا بعد اشتداد أزمتها المالية بعد قطع المساعدات الإيرانية عنها، وعلى أمل أن تتحمل الحكومة صرف رواتب الموظفين الذين تم تعيينهم أثناء فترة حكومة «حماس».
ما يمكن أن يفسر ذلك أن «حماس» مثل «المؤمن الذي لا يلدغ من حجر واحد مرتين»، وباتت تخشى الآن أكثر من السابق من أن تكون الخطة مجرد خطوة أولى «لتشليحها» السلطة في غزة من دون مقابل، أي بلا شراكة في السلطة والمنظمة. ويعزز من هذه الخشية أن الخطة الفصائلية ليست جزءًا من خطة أشمل، تتضمن تنفيذ «اتفاق القاهرة» بضمانات معقولة.
تتضمن الخطة أن تكون إدارة المعبر من الموظفين القدامى والجدد برئاسة شخصية متوافق عليها تحت مظلة الحكومة، وأن يكون أمن المعبر والحدود تابعًا للرئاسة حتى تقبل مصر بفتح المعبر، وأن تعود عائدات المعبر لتطويره.
لذا إذا أرادت الفصائل التي تقف وراء الخطة النجاح لها عليها أن تضمن :
أولًا: أن الرئيس وفتح موافقون عليها، فمواقفة الحكومة يمكن أن تكون مبادرة منها من دون غطاء منهما، أو مناورة متفق عليها منهما على أساس الرهان بأن «حماس» سترفض الخطة، وبالتالي ستتحمل المسؤولية عن معاناة الناس.
إن تاريخ العمل والحوار من أجل المصالحة مليء بعدم الجدية، ورمي كل طرف للمسؤولية على الطرف الآخر، وبالمناورات المتبادلة، فمثلًا عندما وافقت «فتح» على الورقة المصرية في اللحظة الأخيرة في تشرين الأول 2009، كانت تراهن على أن «حماس» سترفضها، وكسب الرئيس و»فتح» الرهان، فلم توافق عليها «حماس» إلا بعدما أجرت عليها تعديلات، أبرزها إضافة كلمة «بالتوافق» عند الحديث عن تشكيل الحكومة ولجنة الانتخابات واللجنة الأمنية وغيرها، وبعدما اندلع ما يسمى «الربيع العربي»، وشهد صعود الإسلام السياسي وسقوط حسني مبارك واستلام المجلس العسكري الذي بات واضحًا أنه لن يمكث كثيرًا، وأن الفرصة متاحة لجماعة الإخوان المسلمين لتصدر المشهد السياسي؛ كل ذلك أدى إلى نكوص «فتح»، حيث باتت مترددة، وتعتبر أن الاتفاق منحاز لحماس، وخصوصًا في الجانب الأمني، وفي الإشارة إلى الإطار القيادي المؤقت الذي عقد اجتماعين في تلك الفترة، ومن بعدها يرفض الرئيس و»فتح» عقده بأي حال من الأحوال.
الآن، «حماس» بعد استمرار تردي علاقاتها مع مصر وإيران وسوريm، وعدم تحسن علاقاتها مع السعودية رغم العربون الذي قدمته للحكام الجدد في تأييد «عاصفة الحزم» وغيرها من مواقف؛ أصبحت أقل مرونة، وأكثر خشية من توظيف أي تنازل منها لتسهيل الإطاحة بها في قطاع غزة.
ثانيًا: أن تضمن أو تسعى الفصائل للحصول على موافقة مصر، لأن مصر ليست طرفًا ثانويًا، بل هي التي تقف على الجانب الثاني من المعبر، ولديها اعتبارات - وافقنا عليها أم لم نوافق - يجب العمل على تلبيتها، أو تذليلها، أو الاتفاق على صيغة متفق عليها بشأنها.
فمصر تعتبر ما يجري في غزة مرتبط ويؤثر بشدة على الأمن المصري، من خلال ترابط سيناء مع قطاع غزة، خصوصًا في ظل أن «حماس» امتداد لجماعة الإخوان المسملين التي يحاربها النظام المصري، ولديها علاقات وتعاون مع تنظيمات «سلفية جهادية» مصرية. قد تطلب مصر بناء على كل ذلك أن تشرط موافقتها بالوضع الأمني بسيناء، وبأن تتولى حكومة الوفاق السيطرة على كل قطاع غزة قبل أن توافق على فتح دائم لمعبر رفح. في هذه الحالة، ماذا سيكون رد الفصائل؟
ما سبق يوضح أن الأمر ليس بالبساطة التي يظهر بها أحيانًا أو يحاول البعض تصويرها، فكيف سيكون المعبر تحت مظلة الحكومة وقطاع غزة ليست تحت هذه المظلة، وما الذي يمنع «حماس» إذا وافقت على الخطة المذكورة أن تضع حاجزًا بعد المعبر يجعل هناك معبرًا آخر يملك حق السماح والمنع تمامًا، كما هو حاصل على معبر بيت حانون (إيريز).
رغم أنني لست ضد أي خطوة، ولو مؤقتة، من شأنها أن تخفف من معاناة المواطنين، ولكن الأمانة تقتضي القول ومبكرًا إن مثل هذه الحلول الجزئية والعرجاء إذا لم تكن جزءًا من حل شامل أساسه البحث عن الخلاص الوطني، وليس الخلاص الفصائلي، وناجمة عن قناعة وإرادة سياسية بأن استمرار الانقسام يضر بالقضية والشعب، وأنه ليس بمقدور «فتح» وحدها ولا «حماس» وحدها قيادة السفينة الفلسطينية لبر الأمان، وكذلك لا قيادة الضفة وحدها أو غزة وحدها؛ فستكون هذه الحلول مثل تعلق الغريق بقشة بالرغم من أنها غير قادرة على إنقاذه من الغرق.
الكل الفلسطيني في أزمة شاملة وعميقة ومرشحة للتفاقم، بينما يقوم الاحتلال بتوسيع وتكثيف الاستيطان والعدوان والعنصرية ضد الفلسطينيين جميعًا، فهل نتعظ قبل فوات الأوان، وهذه اللحظة (فوات الأوان) تقترب أكثر ما يظن الكثيرون.
طريق الوحدة وشروطها واضحة، والعقبات الضخمة أمامه جلية للعيان، ومن دون السعي لسلوكه وإزالة العقبات، سنبقى ندور في حلقة مفرغة من الانقسام المدمر، حتى لو حققنا أحيانًا بعض التسهيلات التي تخفف من الأعباء وأكثر ما تستهدفه أو تؤدي إليه منع الانفجار أو الانهيار.
-