بعد لقائه حافظ الأسد، في سبعينيات القرن الماضي، وصفه هنري كيسنغر بشخص تدل تعبيرات وجهه على عدم وجود أوهام، في ذهنه، حول الطبيعة البشرية.
وهذا التعبير ليس إيجابياً، في كل الأحوال، بمعنى أن مَنْ لا تساوره أوهام حول طبيعة البشر يرى الأنانية، والجشع، والخديعة، والعدوان، باعتبارها الدوافع الرئيسة لبني الإنسان.
وهذا، أيضاً، ما يمكن أن يُقال عن الفرنسي جيرار دي فيليه (1929 ـ 2013)، ولكن بعد قراءة رواياته.
والمذكور يمثل ظاهرة في تاريخ الرواية البوليسية الفرنسية. فعلى مدار عمره المديد نشر ما يزيد على مائتي رواية، وباعت رواياته مائة وعشرين مليون نسخة.
وعلى الرغم من حقيقة أن نفوذه الرئيس ظل محصوراً في فرنسا، وبلدان الفرانكوفونية عموماً، إلا أن العالم الإنكلو سكسوني أولاه مزيداً من الاهتمام في السنوات القليلة الماضية.
وفي العامين الماضيين، على الأقل، ظهرت ثلاث من رواياته بالإنكليزية، وبالعربية توجد رواية واحدة، بقدر ما أعلم، بعنوان "ذهب القاعدة".
يقوم بدور الفاعل الرئيس في روايات دي فيليه (منذ العام 1964) نبيل نمساوي يملك قلعة تاريخية مهيبة، لكن موارده المالية لا تكفي للإنفاق على القلعة، وعلى نمط للعيش يليق بنبيل ينتمي إلى طبقة أرستقراطية قديمة عرفت المجد في قرون سبقت.
لذا، يجد مالكو لينغي، وهذا اسمه، المخرج في تقديم خدمات لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، التي ترسله في مهام خاصة في أربعة أركان الأرض.
والمثير في سيرة دي فيليه، ورواياته البوليسية، أنها غالباً ما تعالج أحداثاً قبل وقوعها، ففي العام 1980، مثلاً، نشر رواية عن اغتيال الرئيس المصري أنور السادات على يد إسلاميين متطرفين، قبل حادثة المنصة الشهيرة، ومقتل السادات، وفي العام 2012 نشر رواية عن توّرط وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في ليبيا، وكانت في جانب منها قريبة مما حدث في وقت لاحق، عندما هاجم إسلاميون متطرفون السفارة الأميركية، وقتلوا السفير الأميركي هناك.
التفاصيل المدهشة، وبعد النظر السياسي الدقيق، في روايات دي فيليه، الذي بدأ حياته صحافياً، قبل التفرّغ لكتابة الروايات، دفع البعض للاعتقاد بوجود علاقة بينه وبين أجهزة الأمن الفرنسية، والأوروبية، التي يستقي معلوماته من مصادرها.
ومن الثابت، في هذا الصدد، أن علاقة ربطته بأجهزة أمن فرنسية، ولكن من غير الواضح مدى إسهام علاقة كهذه في توقّع أحداث بعينها، أو في تسريب حقائق معيّنة.
المهم أن في رواياته ما يدل على سعة الاطلاع، ودقة المعرفة، وكفاءة البحث، وفي خلفية هذا كله بصر وبصيرة شخص لا تساوره أوهام حول الطبيعة البشرية.
وفي سياق كهذا، أيضاً، يمكن النظر إلى "فوضى في كابول" المنشورة بالفرنسية (2013)، والتي صدرت ترجمتها الإنكليزية في أواخر العام 2014، باعتبارها وسيلة إيضاح.
تعالج الرواية الفوضى الأفغانية بعد الإطاحة بنظام الطالبان، والاحتلال الأميركي، وتنصيب كرزاي على رأس النظام الجديد، الذي لا يسيطر إلا على كابول، ومدن قليلة، بينما يهيمن الطالبان على الريف، ويتمكنون من اختراق المدن بالخلايا النائمة، وفي خلفية هذا كله يتسم النظام القائم بالقسوة، والفساد، ويزدهر عالم الظلال، والإرهاب، وتجّار المخدرات، والسلاح، والعصابات المحلية.
يذهب لينغي، بتكليف من المخابرات الأميركية، وموافقة ضمنية من البيت الأبيض، للإشراف على تنفيذ اتفاق سري بين الأميركيين والطالبان مفاده التخلّص من كرزاي، الذي أصبح عبئاً ثقيلاً، بالاغتيال، وتشكيل حكومة جديدة يشارك فيها الطالبان.
ومع ذلك تفشل عملية الاغتيال، عندما يفشل المرتزق الجنوب أفريقي، الذي كلفه لينغي بالمهمة، في إصابة السيارة التي يستقلها كرزاي.
وبعد فشل العملية يجد لينغي نفسه مطارداً من جانب جهات مختلفة يعنيها التخلّص منه، والتكتم على العملية: كرزاي يريده ميتاً بدافع الانتقام، والطالبان يريدونه ميتاً لشطب كل أثر لعلاقتهم مع الأميركيين، وكذلك المُرتزق المكلّف بعملية الاغتيال للقضاء على الدليل الوحيد ضده، وحتى بين الأميركيين هناك من يريد موته لإنكار الصلة بعملية الاغتيال الفاشلة.
وليس ثمة من مبرر، هنا، للخوض في التفاصيل الصغيرة، أو حتى الخطوط الرئيسة للحبكة، المهم أنها تعالج عالماً لا مكان فيه للثقة، والأخلاق، أو النوايا الطيبة.
فقانون الغاب هو السائد، ولا عداوة، أو صداقة، نهائية ودائمة، ولا مكان للمبادئ أو القيم. القيمة الوحيدة، وكذلك المبدأ الحاكم الوحيد، تحقيق الهدف، بصرف النظر عن الوسيلة.
الصديق في العلن عدو في الباطن، والعدو في العلن حليف في الباطن. هكذا يبدو العالم في قاعة المرايا المشروخة حيث يتشظى الوجه الواحد في ألف وجه محتمل.
وإذا شئنا الكلام عن روايات دي فيليه من حيث علاقتها بالأدب الروائي، يمكن القول إنها ضعيفة الصلة.
ومع ذلك، فإن في خلاصة كهذه ما لا ينبغي أن يحجب حقيقة الثقافة الجماهيرية، السطحية، العجولة، والتافهة، السائدة في عالم اليوم، التي يمثلها التلفزيون أبلغ تمثيل.
ففي ثقافة كهذه تتموضع رواية من نوع "فوضى في كابول". ولا يبدو من قبيل المصادفة أن روايات دي فيليه تفيض بمشاهد الجنس الساخن والمكشوف، وهي من التوابل الرائجة.
وبالعودة إلى فقدان دي فيليه لكل وهم محتمل حول الطبيعة البشرية، يبدو أنه عرف سر البضاعة الرائجة في السوق.
لم يقدّم سلعة رخيصة، بل استثمر الكثير من الجهد، ونفاذ البصر والبصيرة. صحيح أنه لا يكتب ما يشبه تحفة "الأميركي الهادئ"، بيد أنه يُمكّن القارئ من العيش في زمن قصير، مُستقطع، كالزمن الذي ينفقه الناس في مشاهدة أفلام المغامرات والعنف، فلا يبقى منه إلا بعض ما رشح من الأدرينالين، في الدم، وسط قاعة مشروخة المرايا.
-