حماس والمقاربة السياسية.. واقعية سياسية أم تحولات دراماتيكية!

حجم الخط

بقلم د منصور أبو كريم

 

 

 لم يكن عدم رغبة حركة حماس وجهازها العسكري الدخول على خط المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي خلال جولة التصعيد الأخيرة التي قادتها حركة الجهاد الإسلامي وجهازها العسكري سرايا القدس بمفردها بمساندة بعض الفصائل الأخرى؛ إلا تعبيرًا عن تقديم المقاربة السياسية على المقاربة العسكرية لدى حماس في تطورات الأوضاع الدولية والإقليمية وإكراهات الواقع المتردي في قطاع غزة بعد سنوات من الحصار والحروب التي أنهكت الحجر والبشر.

منذ اللحظة الأولى لاندلاع المواجهة لم ترغب حركة حماس للدخول على خط المواجهة لأسباب تتعلق بسوء الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية في غزة وعدم رغبة الحركة في تكرار سيناريو العام الماضي، فهل هذا الأمر يمثل عقلانية سياسية جاءت متأخرة؟ أم يعبر عن تحولات جذرية في سلوك الحركة السياسي تجاه آليات التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يستخدم مع الحركة سياسة (العصا الجزرة).

لقد كشفت جولة التصعيد الأخيرة عن مدى التحولات التي طرأت على سلوك حركة حماس السياسي بعد سنوات من دخولها النظام السياسي الفلسطيني وسيطرتها المنفردة على قطاع غزة، فالحركة التي كانت تصنف على أنها رأس الحربة في مشروع المقاومة المسلحة باتت تفضل العمل السياسي على العمل المسلح. هذا التحول ترافق مع رغبة الحركة في الحصول على الشرعية الدولية والإقليمية في إطار صراعها الداخلي مع حركة فتح ومنظمة التحرير على زعامة الشعب الفلسطيني، عبر الجنوح أكثر إلى التعاطي الإيجابي مع متطلبات المجتمع الدولي عبر ضبط استخدام السلاح في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وتقديم المقاربة السياسية على المقاربة العسكرية مع الاحتفاظ بورقة القسام كضمانة لاستقرار حكمها في غزة.

هناك مؤشرات كثيرة على قياس درجة ومدى هذا التحول، منها وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي شكلت نقلة نوعية في فكر الحركة تجاه التسوية السياسية، وتصريحات قيادة الحركة في الداخل والخارج، التي باتت أقرب إلى برنامج منظمة التحرير الفلسطينية عبر القبول بدولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967.

حماس لم تكن الاستثناء الوحيد في الحالة الفلسطينية؛ فهذا المسار سلكته من قبلها حركة فتح ومنظمة التحرير عقب الخروج من بيروت عبر تقديم المقاربة السياسية والعمل السياسي على الكفاح المسلح، وهو الأمر الذي ساهم في دخول المنظمة على خط التسوية والتوقيع على اتفاق أوسلو عام 1993، وما يحدث بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس من تفاهمات برعاية دولية وإقليمية يمثل تمهيدًا لدخول الحركة على خط التسوية السياسية المباشرة مع الاحتلال إن توفرت المعطيات الدولية والإقليمية والفلسطينية التي تساند ذلك.

ربما هذا التطور في سلوك الحركة تجاه تقديم المقاربة السياسية على المقاربة العسكرية ناتج عن مأزق حكم الحركة في غزة، بعد سنوات من الحصار والحروب؛ مما أدى لتردي الوضع الإنساني في غزة في ظل ارتفاع معدلات البطالة والفقر وسوء التغذية، مما دفع الحركة لعدم الدخول على خط المواجهة مع الاحتلال خلال جولة التصعيد الأخيرة، خشية منها من تكرار سيناريو حرب مايو 2021 التي أدت لتدمير البنية التحتية في غزة بشكل كامل.

ثمة مؤشرات كثيرة تؤكد أن حركة حماس تقف الآن على مفترق طرق جوهري ومصيري، بين كونها جزء من محور مقاومة يقدم العمل العسكري على العمل السياسي في التعاطي مع الاحتلال الإسرائيلي في إطار برنامج المقاومة الذي نجحت من خلاله الحركة في كسب تأييد الشارع الفلسطيني، عبر رفضها لخيار المفاوضات التسوية السياسية، وبين كونها سلطة حكم تدير الأوضاع في قطاع غزة، ومسؤولة عن تدبير شؤون السكان في ظل تحديات وإكراهات الواقع المتردي، وبين متطلبات المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية التي تصنف الحركة ضمن قوائم الإرهاب.

هذا المسار الصعب والمتعثر التي تمر فيه الحركة يجعلها تميل أحيانًا للعمل العسكري من خلال المواجهات العسكرية المتكررة مع الاحتلال، بينما تقدم الخيار السياسي الأقل كلفة في كثير من الأوقات، لضمان التوازن بين المسارات، بما يضمن من جانب البقاء في محور المقاومة كتموضع استراتيجي، ومن جانب آخر التعاطي الإيجابي من متطلبات المجتمع، فحركة حماس عقب دخولها النظام الفلسطيني وسيطرتها على غزة تحولت من حركة مقاومة عسكرية بشكل صرف، لحزب سياسي يقود سلطة؛ كما فعلت فتح عقب اوسلو، ترافق ذلك مع تحول مهمّة جهازها العسكرية لحماية هذا الكيان من الداخل والخارج، لكن ذلك لا يمنع الدخول كل فترة في مواجهة عسكرية محدودة مع الاحتلال لتذكير المجتمع الفلسطيني والعربي والإسلامي بكونها مازالت حركة مقاومة.

عدم دخول حماس على خط المواجهة مع الاحتلال خلال التصعيد الأخير لم يترك حركة الجهاد الإسلامي بمفردها في المعركة فحسب، بل جاء تأكيد لعمق التحولات التي ضربت فكر وسلوك الحركة تجاه تقديم المقاربة السياسية على المقاربة العسكرية، والتجاوب مع متطلبات المجتمع الدولي، بهدف البحث لها عن مكانه في عالم متغير.