أحلام مستغانمي.. حين يجف مداد قلمها

AZ01p.jpeg
حجم الخط

بقلم د.أسامه الفرا

 

 

 نعم سيدتي كل ما يقال عن المأساة يظل مجرد كلام، وحين يرتطم بك الخبر ويفقدك القدرة على التعليق ويجف مداد قلمك ويأخذك الوجع إلى حدود الصمت، تكوني عند حدود فلسطين، حيث تقيم المأساة في أزقتها وحواريها، تراها في عيون كهل هرم حلمه بالعودة إلى داره، وفي لعبة طفل تطل من بين الأنقاض، فيها يسكن الوجع والصمت متلاصقين، يأخذك أحدهما عنوة إلى الآخر ولا مجال أمامك سوى أن تبيت متلحفاً بهما، وبينما تحاول أن تسرق النظر إلى نجمة في السماء تخشى أن يرصدك الموت المحلق فيها، مشكلتنا سيدتي ليست مع الموت بل مع من يموت منا قبل الآخر، وربما مع أشلاء منا نواريها الثرى ليكمل صاحبها حياته بحثاً عن ذاته الغير مكتملة التي ربما توارت أشلاء منها في جوف مأساة أخرى.
الفتيات الستة اللواتي بتن بلا أب وبلا أم سينقل الإعلام لنا خبرهم عبر كلمات عابرة لغارة أوقعت شهداء وربما قتلى ويمضي سريعاً كما تأتينا الأخبار العاجلة، لربما الأخبار العاجلة ذاتها ملت هي الأخرى من نقل مآسينا، فكل ما يعنيها أن تختزل المأساة في أرقام جافة تلائم قوامها، الألم سيدتي ليس في دموع الفتيات الصغيرات التي تسكب منهن وليدة اللحظة، بل تلك التي تبقى برفقتهن متحجرة لا تقوى على الإنفكاك، كلما لامستها تفاصيل الحياة نزفت وجعاً، أن تعود الصغيرات من المدرسة فلا يجدن في البيت سوى صدى الحزن يخيم فيه، أو أن تصحو إحداهن يوماً تفتش في ذاكرة الدار عن حب تلتقطه من على جدرانها فتتعثر في ذاكرة جسد تسكنه بقايا شظايا صاروخ، أن يأتي العيد فلا يجدن فيه سوى ذاكرة تنكأ الجراح، نعم.. حياتهن تغيرت من الآن وإلى الأبد ولكن من منا سيقف عند منحنياتها وتعقيداتها، ومن له أن يمسح شعرها ويعيد ترتيب جدائله.
سيدتي، كم يوجعنا صمتنا، نصمت كي لا يسمع العدو أنيننا، نخاف أن يحصي علينا صرخاتنا فيجعلها دلالة لإنتصاره علينا، نصمت أمام حماقات إبتلينا بها كي لا نمس كبرياء الماضي والحاضر، لم ننتبه إلى صمتنا وهو يكبر معنا ويتشكل كظل لنا لم نعد نعرف من منا يمسك بتلابيب الآخر، نفرح بصمت خشية أن تستفز ضحكاتنا الحزن فيطبق علينا من حيث لا نحتسب، ونحب بصمت كي لا نفسد تواشيح الوطن، ونسترق السمع إلى موسيقي كي لا نخدش بها وجه الثكلى، نطوق إبتسامة حطت على شفاهنا على حين غرة كي لا تفك وقار حزننا، نلاحق الأخبار علها تأتينا بفرح مؤجل فلا تحمل لنا إلا ما تثقل به كاهلنا، صمتنا يوجعنا وصمت غيرنا عما يحدث لنا يقتلنا،
قدرنا يا سيدتي أن نفتش في الألوان فلا نجد منها سوى الأسود نتوشح به والرمادي يخفي به هذا العالم نفاقه، لا أعرف لماذا إخترت الأسود لترتديه روايتك، أعرف أنه لا يتحمل مسؤولية أحزاننا لكنه توأمها السيامي، وأدرك أن نظرات الفتيات الستة تفيض حزناً لا قبل للون الأسود على حملها ولا يمكن لكل الألوان الزاهية أن تحاصره، بل أن إبتسامة ذالك الجندي القادم إلينا من وراء البحار حين يحرر قذيفته من مربضها لتبعثر لحمنا تمطرنا بحزن يلازمنا رغماً عنا، نعم وجعنا يولد من رحم إبتسامته، لذا نخشاها خشيتنا لصاروخ يقتلنا بصمت، تعلم أطفالنا أن الإنفجار الذي نسمعه يخطئنا ليقتل غيرنا، وأن الدخان الأسود المنبعث منه نحو السماء هو جراء إحتراق لحمنا، ما أصعب الحياة التي تصحو فيها على حزن وتبيت فيها على صمت.
قدرنا سيدتي أن نحيا بين آلاف الصور بتفاصيلها المرئية والغير مرئية وبوجعها اللامتناهي، أن نبكي شريطة ألا تدمع عيوننا فالدمع يفسد كبرياء رجولتنا، نريد لطفولتنا أن تطوى صفحاتها على عجل دون لهو أو لعب، وعلينا أن ننتقي الأسود دوماً ليس لأنه يليق بنا بل لأن غيره من الألوان لا يصلح لنا، لك سيدتي من فلسطين تحية.