معركة مخيم جنين، التاريخ الحي

عبدالغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

 

"معركة مخيم جنين الكبرى 2002: التاريخ الحي"، كتاب جديد يتناول معركة جنين، والتي حدثت خلال الاجتياح الإسرائيلي لمدن الضفة الغربية، إصدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2022، ومن تأليف الدكتور جمال حويل، أحد الفدائيين الذي كانوا في قلب الحدث، وتقديم الأسير القائد مروان البرغوثي.
يستمد الكتاب أهميته لكونه عملية تأريخ وتوثيق لصيق بالحدث نفسه، حيث إن المؤلف أحد أبرز المشاركين في المعركة من أولها إلى آخرها، ولأنه يكمّل النقص في عملية أخذ الدروس من التجارب المفصلية التي حدثت في التاريخ الفلسطيني المعاصر، والتي اعتدنا على غيابها، أو نقصها على المستويين الرسمي والشعبي، وبالتالي فالكتاب تأسيس وتواصل لنهج توثيقي وتحليلي ينبغي أن يستمر ويترسخ. والكتاب ليس مجرد تدوين تاريخ تفصيلي، بل إنه أتى أيضاً مشفوعاً بتحليل سياسي وعسكري واجتماعي وثقافي لمعركة مخيم جنين، وما أحاط بها من مؤثرات وتداعيات وظروف، من شأنه أن يعزز نهج وخيار المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، خاصة في ظل قناعة البعض باستنفاد خيار المقاومة المسلحة.
من الناحية التوثيقية، صيغ الكتاب بنهج أكاديمي صارم، اتسم بالموضوعية والدقة، فقد استعان بالكتب التي تناولت معركة جنين، والتقارير الإخبارية، وروايات الشهود، والحكايات الشعبية التي نشأت أثناء وبعد المعركة، والتي اتسم بعضها بطابع الأسطرة والمبالغة.. وبما أن المؤلف لم يكن مجرد شاهد عيان، بل كان صانعاً للحدث، ومشاركاً فيه، ومع ذلك لم يقع في فخ النرجسية، بل بالعكس تماماً، فتقريباً سرد الحكاية كلها، دون أي محاولة لتضخيم الذات، أو انتقاص من دور الآخرين.. وهذه نقطة تُحسب له.
ومن الناحية السياسية، جاء الكتاب إنصافاً للدور الكبير الذي اضطلعت به القيادة السياسية، والأجهزة الأمنية في سياق انتفاضة الأقصى، وفي التصدي لعملية "السور الواقي" بشكل خاص، وتحديداً في معركة مخيم جنين. وتكتسب هذه النقطة أهميتها أكثر في هذه اللحظة التاريخية، حيث تتعرض السلطة الوطنية لحملة إعلامية ممنهجة، هدفها تقويض مصداقيتها، ومحو تاريخها النضالي، واختزاله في عنوانين فقط: الفساد والتنسيق الأمني.
جاء الكتاب خليطاً مدهشاً وإبداعياً بين القصة الصحافية، والتقرير الإخباري، والتحليل السياسي، والسرد الروائي، بأسلوب مشوق، وبلغة سليمة وواضحة، لا تكلفَ فيها ولا ابتذال، وبدون حشو وإنشاء، وكل التفاصيل الدقيقة أوردها من باب الأمانة التاريخية، وليعطي كل ذي حق حقه.
كما تضمن جانباً فلسفياً عميقاً يبحث عن معنى المقاومة ببعديها الوطني والإنساني، وعن معنى النصر، ومعنى الهزيمة، وعن الصمود، والاستسلام، والفرق بين المقاومة الواعية والعدمية. ساعياً إلى الوقوف من جديد على تخوم المعركة، ومن مسافة شديدة القرب، مستعيداً بذاكرته التفاصيل الدقيقة، ليس تاريخياً ومكانياً وحسب، بل إنسانياً وروحياً، في محاولة منه للإجابة عن أسئلة مقلقة ومحيرة: متى يكون النصر حاسماً وأخيراً؟ ومتى تكون الهزيمة العسكرية قاضية تماماً؟ ماذا فعل المنتصرون بالنصر؟ وماذا فعل المهزومون بالهزيمة؟ كيف صارت كربلاء مثلاً وعنواناً لخسة المنتصر، ونبل المهزوم؟ وكيف تجاوزت الشعوب الحية هزائمها وخيباتها وحولتها إلى مجرد ذكريات؟
وفي الحالة الفلسطينية يطرح أسئلة إضافية: كيف جعل الفلسطينيون معركة مخيم جنين "ملحمة صمود وتصدٍّ"، حققوا فيها نصرا معنويا، بالرغم من حجم الخسائر والتضحيات الجسيمة؟ وكيف صوروها في الوقت ذاته ك"مجزرة دموية"، ارتكب فيها الإسرائيليون جرائم حرب؟
ويساعدنا الكتاب على طرح أسئلة مقابلة: كيف نجعل من معركة الكرامة، والعرقوب، والليطاني، وقلعة الشقيف، وصمود بيروت، وصمود المقاطعة، ومعركة جنين، وكنيسة المهد، وحروب غزة، وعمليات عيلبون، والساحل، وسافوي، والدبويا.. وعشرات المآثر الأخرى.. كيف نجعلها جميعها في إطار ملحمي واحد؟ وضمن عملية تراكم نضالي متواصل. وكيف لنا أخذ العبر وإجراء دراسات نقدية جادة لمجمل التجربة الفلسطينية؟
نبعت خصوصية معركة جنين، من قناعة لاجئي المخيم أنّ لا ملاذ آخر لهم، ولا يمكن لهم القبول بنكبة جديدة، ولا بتهجير جديد، وبالتالي ليس أمامهم إلا الصمود والالتفاف حول المقاومة، كما جسدت الوحدة الوطنية؛ بين السلطة والشعب، وبين الفصائل الوطنية، واحتضان الجماهير للمقاومة، وتلك حسب مقولة مروان البرغوثي بوابة الانتصار. وأثبت مخيم جنين مرة أخرى أن العالم لا يأبه بالضعفاء، ولا يكترث للعدالة إلا عندما يصرخ المظلوم بأعلى صوته، ويبرهن لهم أنه ليس مجرد مظلوم وخانع ينتظر منهم الدعم.. بل هو فدائي ومسلح، وبوسعه عمل الكثير، فلولا السلاح، وصمود وثبات وبسالة المقاتلين والأهالي لسحق جيش الاحتلال جنين ومخيمها، وأضافهم إلى قائمة الضحايا، على مرأى ومسمع العالم.
تناول الكاتب يوميات المعركة، ليس بلغة الأرقام والبيانات وحسب، بل بقصصها وخفاياها وتفاصيلها الإنسانية غير المرئية، وأسماء الحارات، والأزقة، والبيوت، والناس.. وأي قارئ للكتاب سيعيش المعركة لحظة بلحظة؛ سيشتم روائح الغاز والبارود، وسيسمع أزيز الرصاص، ودوي القذائف وهي تدك البيوت فوق رؤوس ساكنيها، سيسمع صراخ الأطفال، وأنات الجرحى، وبكاء الأهالي على من فقدوهم.. سيُصاب بالذعر، والقشعريرة، وسيفخر ببطولة وشجاعة الفدائيين، وسينحني إجلالاً لإنسانيتهم، وبسالتهم، وسيفرح لانتصاراتهم، وسيشمئز من تصرفات جنود الاحتلال، ويُصدم من مدى وحشيتهم.. كل تلك المشاعر المتباينة يحررها الكتاب دفعة واحدة بهذا السرد الملحمي.
استمرت المعركة أسبوعين، أوقع خلالها الفدائيون خسائر موجعة في صفوف جيش الاحتلال، بلغت باعتراف إسرائيل 29 قتيلاً، وفي تقديرات أخرى 40 قتيلاً.
ضمت غرفة العمليات التي قادت المعركة كتائب الأقصى (فتح)، وكتائب القسام (حماس)، وسرايا القدس (الجهاد الإسلامي)، بقيادة أبو جندل، الذي استشهد في اليوم الأخير من المعركة، وهو ضابط في جهاز الأمن الوطني، لديه خبرة قتالية اكتسبها من سنوات النضال في لبنان، بلغ عدد المقاتلين المسلحين نحو 150 فدائياً، مقابل نحو 12 ألف جندي إسرائيلي، مزودين بأحدث الأسلحة ومسنودين بالدبابات والطائرات الحربية، وبمشاركة مباشرة من رئيس هيئة الأركان "موفاز"، في دلالة على أهمية المعركة، وعلى الصدى الإعلامي الواسع الذي فرضته على وسائل الإعلام المحلية والدولية.
انتهت معركة مخيم جنين، واستُشهد معظم أبطالها، لكن أبطالاً آخرين شاركوا فيها، وفي مواقع الاشتباك الأخرى ما زالوا في الأسر، وما زال شعب بأكمله يناضل بكل طاقاته، منذ مائة سنة لنيل حريته واستقلاله، لذا ستظل معركة جنين مأثرةً خالدة في سجل الكفاح الفلسطيني، مع معركة الكرامة، وقلعة الشقيف، وانتفاضات الشعب الفلسطيني التي لن تتوقف حتى يخرج الاحتلال، وتشرق شمس الحرية.