نشأ جيل من المفكرين والنشطاء القوميين العرب، على فرضية أن «الدين» عامل توحيد للأمة، وانتقلت أفكاره إلى المناهج التعليمية في عدد من الدول العربية، حين كنّا صغاراً، كنا نردد كالببغاوات: الأركان الخمسة التي تنهض عليها الأمة العربية هي: اللغة، الدين، الجغرافيا والتاريخ المشترك والمستقبل المشترك. سنكتفي في هذه المقالة بالحديث عن ركن واحدٍ فقط: الدين، وربما تسعفنا الأيام لتناول بقية الأركان.
كنا نتمنى لو أن الله أمدّ في أعمار جيل المؤسسين للفكرة القومية العربية، حتى يتسنى لهم مراجعة بعض هذه الأركان. العشريات الثلاث أو الأربع الفائتة، وانقسام العالمين العربي والإسلامي، إلى قبائل متنازعة وطوائف متصارعة، أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك، أن الرهان على «الدين» كعامل توحيد للعرب، لم يكن في محلّه أبداً، بعد أن صار سبباً (أو اتُخذ كسببٍ) في الفرقة والانقسام وتفتت المجتمعات وانهيار الدول القطرية، دع عنك الفكرة الطوباوية: بناء دولة الوحدة، أو «الدولة/الأمة».
بدأت أزمة «المفهوم»، مفهوم الأمة المتكئة إلى أركانها الخمسة، باحتدام الصراع ضد الآخر في الوطن: من غير المسلمين... مرّ لبنان بتجربة حرب الأعوام الخمسة عشر، وحربه الأهلية اتخذت طابعاً دينياً بين مسلمين ومسيحيين، وكان الدين أحد محركاتها و»أغطيتها»، وإن لم يكن من بين الأسباب الرئيسة التي أشعلتها. الفكرة القومية العربية، وإن انخرط في صياغتها مفكرون مسيحيون كثر في العالم العربي، وكان لهم الإسهام الأبرز في «التنظير» و»الترويج» لها، إلا أنها باقتراحها الدين كعنصر توحيد للأمة فشلت في ذلك فشلاً ذريعاً، وكان المسيحيون في عدة دول عربية أولى ضحاياها.
إلى أن انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، تزامناً مع «الصحوة السعودية» التي انطلقت في أعقاب واقعة الحرم المكي وقضية جهيمان، ليضرب «الفالق المذهبي» العالمين العربي والإسلامي، في مقتل، ويتقدم الصراع السني - الشيعي صدارة النزاعات والانقسامات في المنطقة، وتدخل مجتمعات عربية متعددة، في حالة اصطراع مذهبي غير مسبوقة، وليصبح «الهلال الشيعي» و»السدّ السني» عنواناً لشرخ إقليمي لم يندمل حتى يومنا، وقد لا يتجسر في المدى المنظور، مع أن هذا الصراع، يندلع داخل البيت الإسلامي الواحد، بخلاف ما حصل في الحرب الأهلية اللبنانية، حين كان ظاهر الصراع يدور بين أتباع ديانتين سماويتين، من الشجرة الإبراهيمية الواحدة.
قد يقول قائل: إن حروب الطوائف والأديان، لم تكن إلا من «النوع المفبرك والمصطنع»، وإن الصراعات الجيوإستراتيجية وحروب المصالح والمحاور، كانت تتغطى به، في زمن الحرب الباردة أو ما بعدها، وهذا صحيح، بل وصحيح تماماً، لكن ذلك لا يقلل من شأن فكرة أن «الأديان» باتت تُتخذ سبباً للفرقة والانقسام، أو أقله، يصعب النظر إليها بوصفها عوامل توحيد وتوحد.
اليوم، ومع تطورات المشهد العراقي، ندخل في نفق جديد من مسار تفكك طويل ودام وعميق، لعب الدين فيه دور المحرك والغطاء وأداة الحشد والتعبئة. الانقسام هذه المرة، داخل «البيت المذهبي الواحد»، أو داخل «البيت الشيعي الواحد» على حد الوصف الجاري في العراق. «حرب أهلية شيعية» تطل برأسها البشع، من خلف انقسامات «التيار والإطار»، التيار الصدري والإطار التنسيقي، وربما امتداداً لـ»جولة الفرسان» قبل أكثر من عشر سنوات.
الصراع في البيت الشيعي العراقي الواحد، ليس جديداً، وليست هذه جولته الأولى، وقد لا تكون الأخيرة. الخطير هذه المرة، أنه يخرج من المؤسسات والأطر الحزبية إلى الشوارع، و»التسريبات» المنسوبة للمالكي تصور ضراوة هذا الصراع، واحتمالات وصوله إلى «حرب إلغاء» بين طرفيه، والتعبير مستوحى من لبنان، ومن «حرب إلغاء أخرى» بين إخوة في الدين الواحد، الجنرال ميشيل عون (اليوم «التيار الوطني الحر») والقوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع.
أما عن الحروب المتناسلة بين أبناء «البيت السنّي الواحد» فحدّث ولا حرج، إذ رغم أن «أهل السنة والجماعة»، لا يعرفون أنفسهم كطائفة إسلامية، بل بوصفهم «الأمة الإسلامية»، إلا أن حروب «الإيديولوجيات الدينية» المستندة إلى إرث أهل السنة، لا تتوقف، وكلفت الدول والمجتمعات الإسلامية الكثير من الأرواح والدماء: حرب السلفية المتشددة على المدارس الصوفية، وصراعاتها مع جماعة الإخوان. من منّا لا يتذكر حروب» الإخوة الأعداء» في أفغانستان وكيف أجهزت «طالبان» على «المجاهدين» كافة بعد تحرير بلادهم من السوفيات، ومن منّا لا يستذكر حرب «داعش» على «طالبان»، وحرب «القاعدة» على «داعش»، والعكس صحيح. من منّا لا يسترجع فصول حروب التكفير والتخوين المتبادلة بين أبناء «البيت السلفي – الجهادي» في سورية والعراق وأفريقيا وأفغانستان وفي كل ساحات التواجد المشترك والاحتكاك.
لقد رأينا «إخوة في المذهب والعقيدة»، يستنجدون بمن كانوا في عداد «الأعداء الفكرة» ضد شركائهم في المذهب والعقيدة و»المدرسة الفكرية ذاتها». رأينا أبو محمد الجولاني يستغيث بتركيا في مواجهة «داعش»، ورأينا «طالبان» تستقوي بجنرالات الجيش الباكستاني ضد «المجاهدين»، ونرى «القاعدة» تقاتل تحت راية التحالف العربي في اليمن، مع أنها في حرب معه في ساحات وميادين أخرى، ورأينا ألوية عسكرية يمنية سلفية، تنسق ضرباتها بالتحالف مع سلاح الجو السعودي، ومن غرفة عميات تضم بريطانيا والولايات المتحدة، وقبلها رأينا الحشد الشعبي ينسق مع «التحالف الدولي» في العراق ضد «داعش»، ورأينا تحالفات لا يمكن لعقل سياسي أن يتخيلها، بين قوى تكفيرية متشددة مع خصوم وأعداء في الدين والمذهب والعقيدة، رأينا قادة «القاعدة» يتخذون من إيران ممراً ومقراً لهم في طريقهم من أفغانستان إلى العراق. رأينا فوضى غير خلاقة، عابرة لحدود الطوائف والمذاهب والأديان والأيديولوجيات، ومع ذلك، هناك من لا يزال يُعدّ «الدين» ركناً من أركان وجود الأمة وشرطاً لتشكلها.
لا حدود للحروب المتناسلة من رحم الأديان والطوائف والمذاهب، إذ بعد الحروب فيما بينها، تتوالد الحروب في داخل كل منها، لكأنها النار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله. لا قعر لهذه الانقسامات ولا نهاية لعملية التفتت والتفتيت التي ستضرب المجتمعات وتقوّض أسس وأركان الدول الوطنية، وإن استمر حال «الأمة» على هذا المنوال، فليس من المستبعد أبداً، أن نرى «كرة النار» وقد انتقلت من طائفة إلى أخرى، ومن مذهب إلى آخر.
«حرب الإخوة» التي تهدد «البيت الشيعي العراقي» بالاحتراق، مرشحة بدورها للانتقال إلى عمق «البيت السنّي»، الذي بالكاد خرج من الكارثة التي ألحقتها به، خلافة أبو بكر البغدادي. واليوم، ثمة نذر مواجهة محتملة داخل هذه البيت، ولن تجد صعوبة في «التدثر» بعباءة الدين والمذهب و»المرجعية»، كما جرى عليه مألوف العادة خلال السنوات الماضية. والمؤسف أنه رغم كل التبدلات والتغيرات التي حملتها العقود الأخيرة، إلا أنه ما زال بمقدور بعض الفاعلين، «دغدغة» المشاعر الدينة والمذهبية، وتحويل الطائفة والمذهب، إلى ماكنة تجييش كبرى، تحركها الغرائز الجماعية، بدل العقل الجمعي، وتفجرها الأولويات الزائفة والمتخيّلة، بدل المصالح الواقعية المشتركة.