ليست مصادفات التاريخ وحدها هي التي تقف وراء التزامن، الطافح بالدلالات والصلات والدروس، بين الذكرى الأربعين لمجازر مخيمَي صبرا وشاتيلا (16 أيلول/ سبتمبر 1982)؛ وما شهدته وتشهده اليوم جغرافيا فلسطينية مترامية من غزّة ورفح إلى نابلس وطولكرم. ليس، كذلك، ضمن معانٍ تبسيطية حول تاريخ يعيد كتابة صفحاته، سواء بالصياغات الأشدّ تراجيدية (في حال عذابات الفلسطيني المواطن العادي، تحت احتلال استيطاني عنصري هو الأقذر على مدار التاريخ)؛ أو بالأشدّ مهزلة طبقاً لمقولة كارل ماركس الشهيرة (في حال قيادات فلسطينية، لاهية أو فاسدة أو تابعة أو مسترخية على كراسٍ داخل فلسطين وخارجها، أو حتى متواطئة ضمن مباذل «التنسيق الأمني» الشهير مع الاحتلال).
التزامن، وللتاريخ حصّته هنا أغلب الظنّ، يقود إلى مفهوم «وحدة الساحات» الذي أخذ يتردد مؤخراً على نطاقات شتى: بعضها صحيح النوايا، ناصع الممارسات، لأنه ينطلق من أمانٍ نضالية وممارسات على الأرض توحّد بالفعل بين شهيد/ مقاوم في غزّة، ونظير له شهيد/ مقاوم في نابلس؛ وبعضها فاسد النوايا، هابط الممارسات، لأنه لا يسعى إلى ما هو أكثر من ذرّ الرماد في العيون واستغفال عقل الفلسطيني المواطن العادي إياه. إذْ ثمة، بالفعل، وحدة ساحات فلسطينية، شاء النطاق الأوّل أم أبى النطاق الثاني؛ فليس الفلسطيني اللاجئ على مبعدة أمتار من مخيمَي صبرا وشاتيلا اليوم، منفصل أو مبتعِد إرادياً أو حتى مُبعَد عن مخيم جنين الراهن، من جهة أولى. وليس القيادي/ المسؤول الفلسطيني الذي يتشدق من رام الله أو غزة أو بيروت أو القاهرة أو طهران بمنفصل، من جهة ثانية، عن حليفه وزميله وشريكه الذي يغازل الاحتلال صراحة أو من خلف أستار فضّاحة لا تستر، أو الذي يمدّ شبكات الفساد والتسلط بأسباب البقاء والتضخم، أو الذي يجمّل الانفتاح على مجرم حرب مثل بشار الأسد كانت له ولأبيه أياد سوداء دامية في حروب المخيمات داخل لبنان وسوريا ذاتها.
وهكذا فإنّ الأعلى ترابطاً قد يكون هذا الطراز الجدلي من وحدة الساحات بين إبقاء الفلسطيني/ المقاوم ضحية دولة احتلال، باتت نظام الأبارتيد مكوّناً مركزياً في جودها؛ وضحية قيادات تتسم، في غالبيتها، بالعجز والفشل والتراخي والفساد والارتهانات الخارجية والنأي عن نبض الشارع الشعبي؛ وضحية قوى عربية وإقليمية ودولية اتكأت طويلاً على تحويل القضية الفلسطينية إلى محرقة زائفة لتمرير أو تغطية الاستبداد والتسلط والنهب. والمعادلة الثلاثية هذه ليست جديدة بالطبع، ولكن السياقات الجيو – سياسية وتحوّلات الاجتماع والاقتصاد والثقافة والتحالفات اقتضت إدخال هذا التنويع أو ذاك؛ كأنْ يصبح الفارق شبه منعدم، أو مدعاة سخرية وتندّر، بين «لاءات» الأنظمة العربية بعد هزيمة 1967، وسباق الهرولة إلى التطبيع مع دولة الاحتلال هذه الأيام.
وفي مجموعته «حالة حصار»، 2002، التي تسجّل ما يشبه يوميات الشاعر أثناء الاجتياح الإسرائيلي لمدينة رام الله، تسير إحدى قصائد محمود درويش هكذا: «الشهيدة بنتُ الشهيد/ وأختُ الشهيد وأختُ الشهيدة/ كِنّةُ أمِّ الشهيد حفيدةُ جَدّ شهيد/ وجارةُ عَمّ الشهيد (الخ… الخ…)/ ولا شيء يحدث في العالم المتمدّن،/ فالزمن البربري انتهي،/ والضحية مجهولة الاسم، عاديةٌ/ والضحيةُ.. مثل الحقيقة.. نسبيةٌ/ (الخ… الخ)». توصيف شعري لمفهوم وحدة المصير، دون سواه، من زاوية ترابط حلقات استشهاد الفلسطيني بين بنت وأخت وكنّة وأمّ وحفيدة وجدّ وجارة؛ وليست الحال في سيرورة دائبة من التوسّع والتعدّد والتنوّع على صعيد تسلسل القرابة الاستشهادية وحدها، بل كذلك على مستوى الاتساع الجغرافي لتوحّد الفلسطيني المواطن العادي إياه؛ حيث الفوارق بين مخيم اليرموك الواقع في ظاهر دمشق، ليست سوى مقاييس جغرافية بصدد مخيم دير البلح في ظاهر غزّة، لا تطمس في أيّ حال كثافة الدم الفلسطيني المستباح والمراق و… المتوحد.