نعرف بقدر لا بأس به من التبسيط أننا، منذ نهاية الحرب الباردة في أوائل العقد الأخير من القرن الماضي، نعيش في نظام دولي أحادي القطبية. هذا النظام دشنته الولايات المتحدة رسمياً وفعلياً في مطلع القرن الحالي في أعقاب عملية تفجير برجَي نيويورك بأيدي جماعة دينية متطرفة. لا نبتعد عن حقائق الأمور كثيراً إذا انتهينا كما انتهى آخرون إلى الاعتراف بأن العمل الذي خططت له ونفذته هذه الجماعة المتطرفة كان بمثابة «المفجر» لتطور هام للغاية في العلاقات الدولية ألا وهو انطلاق عملية الانتقال، ولا أقول التحول، من نظام دولي ثنائي القطبية إلى نظام دولي أحادي القطبية. أُصر على أنه كان انتقالاً وليس تحولاً لأسباب تبدو الآن واضحة، يأتي في مقدمتها حقيقة ناصعة، وهي أن النظام ثنائي القطبية أفرزته تطورات الحرب العالمية الثانية والأوضاع الجيوسياسية على الأرض وكانت الولايات المتحدة، رغم أو بفضل انشغالها بالحرب، هي التي خططت لتنفيذه ورسم خطوطه الرئيسية ومنحه الشرعية اللازمة وصنع مؤسساته، ومنها الأمم المتحدة والصروح الاقتصادية الكبرى التي شكلت في مجموعها أسس النظام الاقتصادي العالمي الجديد. ثم أنها كانت الفاعل الرئيسي في وضع وتمويل نظامه الأمني ممثلاً في حلف الناتو ووظيفته غير المعلنة حماية النظام الدولي الخاضع دائماً للهيمنة الأميركية.
هكذا استحقت المرحلة بأسرها تسميتها بمرحلة السلم الأميركي، وفي تسمية أخرى أكثر واقعية عرفت بمرحلة الهيمنة الأميركية. لذلك نقول إن إعلان الرئيس بوش عن بزوغ نظام عالمي جديد لم يَشِ بتحول من نظام إلى آخر مختلف تماماً، وإنما على العكس أكد على أنه مجرد انتقال من نظام ثنائي القطبية تهيمن فيه أميركا إلى نظام أحادي القطبية، يعزز هذه الهيمنة ويحميها، وهي بدورها تعزز أحادية القطب الأميركي وتحميها ضد طموحات أي قوة صاعدة ومخططات أي قوة مخربة.
• • •
أقول بتروٍ وتفكير عميقين حسناً فعلت أميركا. حسناً فعلت عندما شكلت لجاناً وورش عمل وكلفت أساتذة وخبراء في جميع مجالات القانون الدولي والمفاوضات والعلاقات الدولية لوضع رؤية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. لم تنتهِ الحرب إلا وكانت جوانب عديدة من هذه الرؤية قد اتضحت أمام السياسيين والحكام في العالم بأسره. وأقبل العالم على مرحلة جديدة تعتمد نظاماً دولياً ثنائي القطبية ــ قطب ديموقراطي رأسمالي غربي وقطب شيوعي شرقي ــ تعتمد أيضاً تقسيماً لنفوذ وسيطرة القطبين في القارة الأوروبية لوأد أي نشاط أو نوايا ضد النظام الدولي الجديد، ولإخضاع القارة التي كثيراً ما هددت السلم والاستقرار. اعتمدت أيضاً سياسة تفضي إلى تصفية الاستعمار التقليدي في جميع أقاليم العالم النامي والتدخل في حالات بعينها للحلول محل قوات الاستعمار الأوروبي الضعيفة في مواجهة الزحف الشيوعي المدعوم بالقطب السوفييتي.
• • •
لا يمكن إنكار الفائدة التي عادت على أطراف كثيرة في هذا العالم بسبب وخلال مرحلة نطلق عليها مجازاً تعبير السلم الأميركي. أوروبا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية محطمة استفادت من مشروع مارشال لإعادة تعميرها. استفادت أيضاً شعوب كثيرة في العالم النامي من الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في تصفية مواقع عديدة للاستعمار الغربي وبخاصة الفرنسي والبريطاني. استفادت الصين من حاجة الولايات المتحدة الماسة إلى تصدير بعض استثماراتها للعمل في الخارج، وتشغيل عمالة رخيصة للكثير من مشاريعها الصناعية، وكسب شركاء فاعلين في توسيع مجالات العولمة ونشرها. استفادت حركات نشر الديموقراطية ومقاومة الاستبداد من الهالة الأيديولوجية التي كانت أهم قوة رخوة استعانت بها أميركا لتعميق هيمنتها وتبرير تدخلاتها بذريعة حماية الاستقرار والأمن الدوليين.
كانت الديموقراطية أهم قوة رخوة في ترسانة مختلف مصادر القوة الأميركية التي استخدمتها لتحقيق أهدافها كدولة مهيمنة، ولا أقول إنها لا تزال. فما حدث من تطورات خلال عملية الانتقال من نظام دولي ثنائي القطبية إلى نظام دولي آخر، وربما إلى استعادة القوة والاستقرار إلى النظام الأحادي القطبية، يثبت أن أميركا فقدت الكثير من مكانتها وشعبيتها لدى أمم كثيرة، بعد أن كانت بلا منازع الدولة الأكثر شعبية في العالم. نجح الحلم الأميركي في أن يصبح حلم شعوب كثيرة وليس فقط حلم المواطن الأميركي أو الفرد المهاجر إلى أميركا. كانت أميركا صاعدة ومتفوقة في كل معايير السباق على الشعبية. تفوقت على فرنسا وعلى بريطانيا العظمى وعلى روسيا الشيوعية. استمرت وحدها قائدة للغرب بفضل حيازتها والزعم المتواصل بحمايتها للديموقراطية ومبادئ وقيم حقوق الإنسان، وضمان الاستقرار الاجتماعي والانتقال السلمي للسلطة السياسية، والصدارة في جودة التعليم والثقافة.
بهذه الإنجازات وغيرها استطاعت الولايات المتحدة أن تقود في النظام الدولي الثنائي القطبية، وأن تفلح في إزاحة روسيا عن موقع القطب الثاني لتنفرد بالهيمنة على أمل أن تنجح في تثبيتها بإجراءات وسياسات تعزز شرعية نظام القطب الواحد. لم يتحقق هذا الأمل ولأسباب لم تعد محل اختلاف أو نقاش. أول هذه الأسباب، الإدراك المتزايد داخل العالم النامي بخلل في أداء مؤسسات الأمم المتحدة وبخاصة مجلس الأمن وانحيازات صارخة لمؤسسات العمل الاقتصادي، يصاحبه إدراك أقوى بتدهور مستويات الأداء الدبلوماسي والسياسي للولايات المتحدة في المحافل الدولية وبخاصة في مؤتمرات القمة. ظهر التدهور واضحاً في عهد الرئيس دونالد ترامب حين تخلى أكثر من مرة عن الحرص على احترام مظاهر الديموقراطية، وانتهى العهد بإساءة بالغة لمكانة أميركا حين احتلت جماهير ترامبوية الكونغرس وعاثت فيه تخريباً وازدراء.
لم يتحسن كثيراً التدهور في عهد الرئيس بايدن حين ازداد عدد السياسات التي عكست تناقضات قوية. آخر هذه التناقضات وأخطرها التضحية بحياة أمة أو شعب في دول صغيرة للزج بروسيا في صراعات خارجية لإضعافها، وهو الحادث الآن في الأزمة الأوكرانية المفتعلة. يحدث الشيء نفسه مع الصين الساعية لاحتلال موقع تستحقه بجدارة باعتبار المعايير المطلوبة لمن يشغل موقع قطب عظيم في النظام الدولي، وهو الحادث الآن في الأزمة تحت التسخين في تايوان.
• • •
أجد صعوبة كبيرة في تصور أن يوماً يأتي وأكون بين من يمتدحون ما تفعله أميركا تمهيداً لتنفيذ خطة وقف صعود كل من الصين والاتحاد الروسي نحو احتلال موقعَي القطبين الثاني والثالث على التوالي في نظام جديد. أتابع بقلق وتوتر بالغَين ما تفعله أميركا في هذه المرحلة الحرجة. لا أقول، وأظن أنني لن أقول في يوم من الأيام القادمة «حسناً فعلت أميركا». هل إلى هذه الدرجة تغيرنا؟ ولكن من الذي تغير؟ تغيرت أميركا أم أنا الذي تغير؟ المناقشة مستمرة ويجب أن تستمر.