إذا كانت مجرد الإشارة إلى المجازر الإسرائيلية - عبر كلمات رئاسية - التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني قد اثارت هذه الضجة والجلبة وهي مجرد كلمات، فماذا سيحدث حينما يقدّم إسرائيلي حكومي أو غير رسمي أو مدني أو جندي عبر لائحة اتهام للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أو في دولة أخرى تحترم الإختصاص العالمي وتقيمه، جزاء على ما اقترفت يداه من جرائم حرب و/أو جرائم ضد الإنسانية و/أو جرائم إبادة و/أو جرائم عدوان ضد الشعب الفلسطيني الأعزل أو أحد أفراده سواء على صعيد الثرى الفلسطيني أو خارجه.
هل كتب على الشعب الفلسطيني أن ترتكب بحقه الجرائم سواء اتخذت صفة المجازر الجماعية أم الصفة الفردية، وأن يبقى المجرم الفاعل والشريك والمتدخل والمحرض طلقاء بدون حساب أو عقاب، وأن يصمت الشعب الفلسطيني على سفك دمه واستباحته ومحظور عليه استنكارها في اي محفل دولي أو محلي. هل يعقل أن لا يتحرك الضمير الفلسطيني ولا العربي ولا الإسلامي ولا الإنساني على هذه الجرائم التي لا تعد ولا تحصى وتتخذ أشكالا ومسميات عدة.
حينما قرأنا عن محاكمات نورمبورغ ومحاكمات طوكيو في الدراسات القانونية بعد الحرب العالمية الثانية تفاءلنا، وباركنا هذه الخطوة، ورددنا أمنيات أن مثل هذه المحاكمات سيعيدها التاريخ بحق الجناة الإسرائيليين، وبخاصة أن الفاصل الزمني بين هذه المحاكمات وما جرى في فلسطين في دير ياسين والطنطورة وحيفا لم يكن بعيدا. ولم نكن نعلم وقتها، ولم نفقه سياسة المعايير المزدوجة، أو القانون الجنائي الدولي، أوضعف الجزاء الدولي، أو ربما كانت المؤامرة أكبر، ورضينا بوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين كبديل ضمني للملاحقة والمحاكمة للإسرائيليين.
بعدها قلنا، ضاعت ووجدناها، فها هي أربع مواثيق دولية توقع في جنيف عام 1949بعد أن غدت مواثيق لاهاي لعام 1907 جزءا من القانون الدولي العرفي، وتغطي معظم أنشطة الإحتلال والغزو وسلوك المتحاربين والأسرى والشعب الذي يقع تحت سلطة الإحتلال. مواثيق انضم لعضويتها دول أكثر من الدول التي انضمت إلى الأمم المتحدة، في صرختها بنبذ الحروب وإعلاء الإنسانية فوق المدافع وفوهات البنادق. مواثيق نصت المادة الأولى في جميعها على احترام هذه المواثيق في جميع الأحوال وضمان هذا الإحترام، ولم تكلف نفسها بعقد جلسة واحدة لتنفيذ هذا الإلتزام بعد دخولها حيز النفاذ. مواثيق وقعتها الدولة العبرية وصادقت عليها لتطبيقها. لكن تبين أن هذه النصوص التي كتبت بعد مقتل عشرات الملايين وجرح مئات الملايين في حرب عالمية ثانية معطلة، فحينما تطالب الدولة العبرية بتطبيقها أو تحاسب على عدم تطبيقها تتبخر هذه النصوص، ويغدو الجيش الإسرائيلي بجنوده وضباطه محصنين من أية مسؤولية جزائية فهو الجيش الأكثر أخلاقية بل توضع العراقيل لعدم تنفيذ هذه النصوص. ولكم الله يا فلسطينيون، حتى جثامينكم يتم احتجازها، وتغدو سلعة في سوق للمبادلة في سوق النخاسة الإسرائيلي.
وانشغلنا في التوجه للأمم المتحدة سواء مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، وسررنا بهذا الكم من القرارات التي تتضمن كلمات ليست كالكلمات. وبقينا عالقين في نفق قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي ولد مشوها ولم يذكر كلمة فلسطين ولا القضية الفلسطينية على الإطلاق، قرار ولد بعد مخاض طويل استغرق خمسة أشهر ونصف، وصاغه داعية بريطاني كان حاكما عسكريا لمدينة نابلس أيام الإنتداب البريطاني على فلسطين، قرار ليس له آلية للتنفيذ ويخلو من الربط بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وندعو الله ونبتهل له بقبول وتنفيذ إسرائيلي. فهل كان وزراء الخارجية العرب ومندوبي دولهم في الأمم المتحدة يجهلون الإجراءات الدولية آنذاك، أم هم تجاهلوها وقبلوا بالموجود، أم باعونا أوهاما وأحلاما. وإذا جازت المقارنة، فإن قرارات مجلس الأمن بشأن الغزو العراقي عام 1990 انهالت كالشلال، وخلال ساعات صدرت القرارات، بموجب الفصل السابع الخاص بالجزاءات الدولية. أية مفارقة مؤلمة.
بقي القانونيون الإنسانيون الحالمون – ومنهم الفلسطينيون - من زمن بعيد يحلمون بتحقيق العدالة الدولية، وملاحقة الجناة والمجرمين اللذين احتموا بسيادة دولهم واختبئوا خلفها رغم بطء هذه الإجراءات، يطاردون فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية لتحاكم جميع من تسول له نفسه ارتكاب جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية أو جريمة إبادة أو جريمة عدوان، دون أي اعتبار لحصانة باي شكل كانت.
واعتقد الكثيرون وأنا واحد منهم – يمكن بسذاجة - أن الفرج قد اقترب وأن الحل بات وشيكا، وأن ملاحقة مجرمي الحرب ومنهم الإسرائيليون قد أصبح قاب قوسين أو أدنى، وذلك حينما تم الإتفاق في روما على تبني ميثاق روما عام 1998. ولم يبق عليه سوى سنوات قليلة للتصديق على هذا الميثاق ودخوله حيز التنفيذ. ومن هنا اليوم هذا الكم الهائل من التصريحات الفلسطينية في كل حادثة أو جريمة لمطالبة المحكمة الجنائية الدولية بمحاسبة المجرم الإسرائيلي، لأن المحاكمة ذات طابع شخصي وليس معنوي أو اعتباري. وخلنا أن هذه المحكمة ستبادر في أول أعمالها إلى ملاحقة أفراد القوات الأمنية الإسرائيلية عن جرائمهم في الأراضي المحتلة. لكن خيالنا كان جامحا فقد حظينا بمدع عام يحرص على الجيش الصهيوني، راغب في ان يكون محاضرا في جامعة هارفارد، طالبا أن تكون فلسطين دولة منضمة لميثاق روما، وإلا فالمحكمة الجنائية الدولية غير مختصة. وجاء بريطاني انشغل بالموضوع الأكراني وجمد مواصلة ما قامت به فتيمة بن سودا وبقي الأمر عالقا.
الأوامر العسكرية من عام 1967 تمنع ملاحقة ومحاكمة الإسرائيليين العسكريين أمام المحاكم المحلية في الضفة الغربية، وجاءت أوسلو ووسعت الموضوع وشمل المدنيين الإسرائيليين وحتى المستوطنين، فغدونا في أزمة قانونية مع الإسرائيليين المدنيين والعسكريين، بينما اي فلسطيني ملاحق أمام جميع المحاكم الإسرائيلية المختصة.
ما العمل حتى لا يستباح الدم الفلسطيني سواء في مجزرة أو في حادث فردي، سؤال يقض المضجع. الأمم المتحدة عقيمة، لا نفع الإنضمام للإنتربول، ولا نفعت اليونسكو، ولا نفع المستشار الألماني، ولم ينفع الرئيس الأمريكي جون بايدن، ولا الإنضمام لمواثيق جنيف الأربع لعام 1949، ولا الإنضمام للمحكمة الجنائية الدولية، ولا المقتل المأساوي للشهيدة شيرين ابو عاقلة.
ما حك جلدك غير ظفرك، يجب أن نظفر بعدالتنا من خلال إجراءاتنا، وأن لا ننام ونقول ما باليد حيلة، ونلغي النصوص القانونية الحاجبة لصلاحية المحاكم الفلسطينية من محاكمات الإسرائيليين، وأن نقيم محاكمات علنية حتى لوكانت غيابية، ونصدر الأحكام حتى لو كان صعبا تنفيذها، بهذا نكسب احترامنا لأنفسنا ومن الغير، فإن وفرت العصا فسد الولد، وتذكر أن المياه الهادئة عميقة الغور!!!