أولاً: إسرائيل
ما زلت عند الرأي الذي يقول إن الحرب في الإقليم إن وقعت فستقع لأن إسرائيل لن تتمكن من «الخروج» من أزمتها المستفحلة، والأصح القول؛ أزماتها المستفحلة من دون مثل هذه الحرب، أو هي على اعتقاد راسخ بذلك.
وحتى عندما نلاحظ بعض الاختلافات الثانوية بين الأوساط السياسية والأمنية والعسكرية، وتلك التي تعكس آراء مراكز الدراسات، وهي بمثابة مراكز مؤثرة في صنع القرار، فإن ثمة إجماعا كبيرا بين هذه الأوساط كلها على ضرورة مواجهة ما تسميه إسرائيل «الأخطار والتهديدات»، وعلى ضرورة شل وتدمير مصادر هذه الأخطار والتهديدات قبل أن يصبح الأمر متأخراً، وقبل أن يصبح الأمر أكثر صعوبة أو متعذراً.
قليلة وهامشية الآراء التي تتعارض مع هذا الفهم الإسرائيلي، وأقل وأكثر هامشية الآراء التي تعترض على هذا الفهم في إسرائيل.
وكانت نظرية «الأمن» الإسرائيلية على مدار أكثر من نصف قرن تقوم على أساس «الشل والتدمير» لمصادر الخطر والتهديد، وغالباً ما كانت إسرائيل تقوم بحروبها بصورة استباقية، وخاطفة، وبحيث تدور الحرب على «أرض العدو»، بعيداً عن جبهتها الداخلية، أو بأقل درجة ممكنة من تأثير هذه الحروب على الداخل الإسرائيلي.
كان الثمن الذي تدفعه إسرائيل جراء حروبها (الاستباقية والمباغتة والخاطفة، وفي «أرض العدو»)، ثمناً زهيداً بالمقارنة مع الثمن الذي كان يدفعه «العدو»، وكان هذا الثمن قابلاً للتعويض بعشرة أمثاله بقدر ما يتعلق الأمر بالعتاد والمعدات، وكان الثمن البشري هو الثمن الذي يُحسب بكل عناية ودقة، وكانت المخاوف من هذا الثمن بالذات هي المخاوف الأولى والأساسية في حسابات معارك إسرائيل وحروبها.
وحتى عندما أعادت إسرائيل النظر ببعض استراتيجياتها الأمنية، فقد فعلت ذلك انطلاقاً من نظرية عدم تعريض القوى البشرية العسكرية والمدنية للخطر والتهديد الكبير.
أدخلت إسرائيل مفاهيم جديدة للمعارك والحروب، وخصوصاً مفهوم التكامل بين كل القطاعات «وكان ذلك في ضوء المراجعات التي تمت بعد (حرب أكتوبر)»، كما أدخلت مفهوم التركيز الناري والقوة الساحقة من الجو بمساندة المدفعية والصواريخ من البر والبحر في الوقت ذاته، وقد رأينا هذه الاستراتيجيات في الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة للبنان، وآخرها حرب العام 1982.
منذ أكثر من عقدين من الزمن فقدت إسرائيل الكثير من ميزاتها النسبية النوعية في المعارك والحروب، لأنها اضطرت إلى خوض حروب ومعارك أبعد ما تكون عن كونها مباغتة، وأُجبرت على خوض معارك وحروب يستحيل أن تسمى خاطفة، وعندما حاولت أن تنقل الحرب والمعارك «وهي تحاول دوماً» إلى أرض «العدو» لم تتمكن من المكوث في هذه الأرض، وجرى إجبارها على الهروب بكل طريقة، وفي أسرع وقت ممكن، وترددت كثيراً منذ حرب العام 2006 في إدخال قواتها البرية في معارك حقيقية، ولم تتمكن حتى الآن من إيجاد حلول ناجعة للجبهة الداخلية، بل إن هذه الجبهة بالذات تحولت إلى نقطة الضعف الكبيرة في كل نظرية ومنظومات الأمن الإسرائيلي.
هنا والآن يمكننا العودة إلى سؤال الثمن الذي يمكن أن يترتب دفعه من قبل إسرائيل فيما إذا قامت حرب إقليمية شاملة وطاحنة.
إذا قامت مثل هذه الحرب فإن إسرائيل ستكون أمام خيار وحيد وهو الحرب الخاطفة، وربما المباغتة، والعمل على التدمير الكامل وشل كل قدرات «العدو». أي أن إسرائيل ما زالت تراهن على قوة التدمير والنيران وبالتكامل بين كل الأسلحة بقيادة سلاح الطيران، وليس في نيتها زجّ قواتها البرية على عدة جبهات، وليس بمقدورها أن تفعل. وحتى لو أجبرت على ذلك فليس بمقدورها حسم المعركة بالكامل في أي من هذه الجبهات، والسبب بات معروفاً، وهو أن الخسائر البشرية ستكون باهظة، ومدة الحرب ستكون مكلفة إلى أبعد الحدود مادياً واقتصادياً، والجبهة الداخلية ستتعرض إلى اهتزازات غير مسبوقة، وقد تكون صادمة.
كل ذلك من دون ضمان تحقيق نصر حاسم ونهائي.
لقد فقدت إسرائيل القدرة على أن تكون في وضعية زمام المبادرة الاستراتيجية الهجومية، وهي تعيش الآن في مرحلة جديدة من الدفاع الاستراتيجي، وكل محاولات إقناع مجتمعها بأنها ما زالت قادرة على الحروب والمعارك على عدة جبهات في ذات الوقت، وقادرة على الانتصار الحاسم فيها هو محض مكابرة وتضليل وأوهام لا أساس لها، أو لم يعد لها في الواقع أي أساس.
قوة النيران والتدمير الغاشم موجودة لديها، وعقلية تسوية أحياء كاملة في سورية ولبنان وغزة بالأرض موجودة وقائمة، وتدمير مدن أو أحياء كبيرة من بعض المدن الإيرانية موجودة وقائمة، ولكن كل ذلك لن يحسم أي حرب، ولن ينتهي إلى أي انتصار.
من هذه الزاوية أولاً وقبل أي زاوية أخرى فإن إسرائيل هي الخاسر الأول والأكبر من أي حرب إقليمية كبيرة وطاحنة، لأنها ستكون قد كشفت عن عجزها الاستراتيجي، وتكون قد وضعت أمنها «القومي» كله أمام اختبار واختيار لا طائل حقيقياً من ورائه.
وإسرائيل المحدودة بمقياس السكان والجغرافيا لا تستطيع تحمّل تبعات تدمير أحياء من مدنها، أو تدمير مرافقها الاقتصادية، ناهيكم عن تبعات الخسائر العسكرية والمدنية الكبيرة دون أن تدفع أثماناً باهظة من تماسك مجتمعها، ووحدة هذا المجتمع، وقدرته على «الصمود»، خصوصاً إذا امتدت الحرب لعدة أشهر بدلاً من عدة أسابيع.
وبمعنى آخر، إذا قامت حرب كهذه، وكانت نتيجتها التحول إلى حرب طويلة للاستنزاف، فإن الخروج منها بصيغة «اللاحسم»، أو بصيغة «اللاغالب ولا المغلوب»، أو بنوع من تعادل الميزان العام للنتائج هو بمثابة هزيمة استراتيجية لإسرائيل.
ولهذا فإن إسرائيل لم تعد قادرة على الحسم أو الانتصار الحاسم، وهذا هو الثمن الحقيقي الذي ستدفعه إضافة إلى الخسائر من كل الأنواع.
ثانياً: لبنان
ليس صحيحاً على الإطلاق ما يقال ويشاع إنه ليس للبنان ما يخسره من حرب كهذه، بل على العكس من ذلك، فإن للبنان الكثير مما يخسره. الأوضاع المزرية على الصعيد الاقتصادي والمعيشي ليست بسبب لبنان وشعبه وموقعه ومواقفه وآماله وتطلعاته وإمكانياته، وإنما بسبب نظام سياسي حوله إلى مزرعة للاقتسام الطائفي، وإلى إقطاعيات سياسية تتناحر على نهب ثرواته وقدراته، ولكنها تتفق على مسألة واحدة، وهي أن يظل هذا التناحر قائماً، وأن لا يجري سوى إعادة «تنظيم» هذا التناحر في مرحلة أو أخرى. أي أن الثابت هو الإبقاء على التناحر والنهب.
ولهذا فإن الحرب إن وقعت يمكن أن تودي بلبنان كبلد وكمجتمع، وقد تؤدي إلى تقسيمه وشرذمته، وإلى الدخول في مرحلة جديدة من التناحر اللامنظم، وصولاً إلى حرب أهلية جديدة على ما تبقّى منه.
الخطة الإسرائيلية في لبنان هي «اللعب» بالمعادلة الداخلية «أملاً» في تدمير «الضاحية»، وأملاً في تشتيت قوات حزب الله، وبحيث لن يعود الحزب قادراً على فرض إرادته على المعادلة الداخلية، بعد أن «يتم» تدمير كل ما يمكن تدميره من مقدراته العسكرية.
بكل المقاييس فإن الخطة الإسرائيلية هي لعب بالنار، لأن إيران لن تقف مكتوفة الأيدي في هذه الحالة، وسورية لن تقبل بهذه المعادلة، وستتحول الحرب الإقليمية في هذه الحالة إلى حرب (وجود أو لا وجود).
وهنا، أيضاً، حجم المغامرة الإسرائيلية يبدو أكبر من قدرتها على السيطرة عليها.
ثالثاً: فلسطين
الخاسر الأكبر سيكون قطاع غزة، لأن القدرة على الدفاع عن القطاع محدودة للغاية، والقدرة على التأثير من خارج (التشويش على الجبهة الداخلية في إسرائيل) تبقى محدودة للغاية، وهو ما يسهل على إسرائيل إيقاع خسائر فادحة في صفوف المدنيين الفلسطينيين، وإحداث دمار هائل في التجمعات المكتظة في القطاع.
أما الخسائر السورية والإيرانية فستبقى محدودة على مستوى الجيوش لأن الجيش السوري لن يكون دخوله كاملاً ولا شاملاً، وكذلك من المستبعد أن تدخل القوات الإيرانية في الحرب مباشرة مع أنها ستستخدم قوة النيران الصاروخية لديها، وهي قوة كبيرة وقد يكون لدخولها المباشر على خط القصف أثر كبير على سير المعارك.
المؤكد أن حرباً كهذه ستؤدي إلى تدمير الكثير من المنشآت النووية الإيرانية، وستتم إعاقة البرنامج النووي الإيراني لسنوات قادمة، لكن إيران في هذه الحالة ستكون قد «تحررت» من أي التزامات، وستعمل على الوصول إلى السلاح النووي في أسرع وقت.
وبهذا المعنى فإن المغامرة الإسرائيلية هنا، أيضاً، هي أكبر من قدرتها على السيطرة عليها.
باختصار إذا قامت الحرب الإقليمية الطاحنة والشاملة فإن الخاسر الأكبر هو إسرائيل، دون أي تقليل من حجم الخسائر الأخرى لكل الأطراف.