دولة الجيش ينقلب فيها السحر على الساحر

AZ01p.jpeg
حجم الخط

بقلم د. أسامة الفرا

 

 

 الطبيعي أن يكون للدولة جيش لكن الغير طبيعي هو أن يكون للجيش دولة، ودولة الاحتلال تشكل نموذجاً لدولة الجيش، حيث تقوم الدولة بكل أركانها على خدمة الجيش، وتختفي فيها الملامح المدنية حتى وإن تجملت بها، حيث المواطن فيها جندي في إجازة لحين الطلب، وكل شيء في الدولة يتحرك وفق المعيار الأمني، ويحظى فيها الجيش بنسبة من ميزانية الدولة هي الأعلى في العالم، ونسبة المواطنين المنخرطين في الجيش هي الأعلى أيضاً، ونسبة كبيرة من المواقع القيادية في الدولة تأتي من الجيش ولا يقتصر الأمر على المواقع السياسية والوظائف الحكومية بل يمتد لشركات القطاع الخاص، وتتسابق الأحزاب فيما بينهما على إستقطاب قيادات الجيش والأجهزة الأمنية بعد تقاعدها، وبالتالي يمسك الجيش بمفاصل الدولة، ومعها لم تجد الدولة حرجاً في أن تبقي على الضبابية في علاقة المؤسسة العسكرية صاحبة النفوذ بالمؤسسة المدنية الصورية ضاربة بعرض الحائط توصيات لجنة "أغرانات" للتحقيق في حرب أكتوبر، ومتجاهلة أيضاً التعديلات في القانون التي تضبط العلاقة بين الجيش والحكومة، سيما ما يتعلق منها بالحرب وإن كانت تخضع لتعليمات رئيس الأركان أم عليه الإلتزام بما يصدر إليه من تعلميات من وزير الدفاع أو رئيس الحكومة أو بما يقرره المجلس الوزاري المصغر أم يتعلق الأمر بالحكومة ذاتها بكامل أعضائها.
ما أن إنقضت السنوات الثلاث، التي يشترطها القانون الإسرائيلي على قادة الجيش والأجهزة الأمنية بعد تركهم لعملهم قبل إلتحاقهم بركب السياسة، حتى فعل غادي أيزنغوت صاحب الأصول المغربية ما فعله معظم قادة أركان الجيش، ترك الجيش بعد أن جعل من استيراتيجية الضاحية جزءاً مهماً في فلسفته القتالية، والتي تقوم على التدمير الكلي للمناطق أسوة بما فعله جيش الاحتلال في الضاحية الجنوبية لبيروت "معقل حزب الله" دون الالتفات للرأي العام الدولي والانتقادات التي يمكن أن توجه لدولة الاحتلال، مستنداً في هذا على ما قاله سابقاً موشيه ديان "ليس لدينا سياسة خارجية لدينا سياسة دفاعية"، أي أن المهم لديهم ما يفعله الجيش وليس ما يقوله العالم، وحاول أيضا أيزنغوت أن يحيي من جديد فلسفة " بارليف" التي يكون فيها لرئيس الأركان كلمة الفصل في الحرب، وحاول أيضاً أن يجدد مفهوم أن القوة الجوية مهما بلغت شدتها لا تحسم حرباً والتي تحسمها فقط القوات البرية، جاءت أفكاره تلك بعقلية العسكري لا بعقلية السياسي، والملفت للانتباه أن دخوله حلبة السياسة لم يحدث إهتزازاً على الخارطة الحزبية كما كان يحدث عند إلتحاق أي من رؤساء الأركان السابقين غمار السياسة، فضل أن ينضم إلى من سبقه في رئاسة الأركان "بيني غانتس" ووزير القضاء جدعون ساعر لخوض الانتخابات مطلع نوفمبر القادم في قائمة الوحدة الوطنية، كان لابيد يمني النفس بأن ينضم صاحب إستيراتيجية الضاحية إلى حزبه كي يصد به منتقديه بإفتقاره إلى الخلفية العسكرية والأمنية كي يدغدغ بها عاطفة جمهور لم يعد السلام جزءاً من ثقافته، نتائج إستطلاعات الرأي التي أعقبت إنضمام أيزنغوت إلى قائمة غانتس وساعر أشارت إلى أن قوة الأحزاب بقيت على حالها ولم يحدث التغيير المؤثر على خارطة التحالفات.
هل خفت بريق قادة الجيش في دولة يغلب عليها العسكر من أخمص قدمها حتى قمة رأسها؟، هل مل المجتمع الإسرائيلي من حكم العسكر له؟، لا يمكن لمجتمع يشارك كل أفراده في الخدمة العسكرية وربط وجوده بعقيدة التفوق العسكري أن يتخلى عن ذلك، سيما وأن فلسفة الحكومات السابقة ومعها المنظومة الإعلامية عملت لسنوات طويلة على الربط بين البقاء والرخاء من جهة والتفوق العسكري وقوة الردع والقدرة على القتل والتدمير من جهة أخرى، ومن المنطق لمجتمع يتنفس هذه الثقافة ويمسك اليمين المتطرف بتلابيبه أن يجد في رئيس الأركان السابق جزءاً من ضالته التي يبحث عنها، لكن الواضح أن عملية تعبئة الجمهور التي تولى مهمتها على مدار العقود السابقة قادة الجيش من خلال التفاخر بقدرات الجيش وقدرته على إلحاق الهزيمة الساحقة بمن يهدد بقرتهم المقدسة "الأمن" انقلب فيها السحر على الساحر، حيث نجحت التعبئة في خلق مجتمع يميني متطرف اختفت فيه قوى السلام وتقدمت الأحزاب اليمينية المتطرفة وشارفت أحزاب اليسار والوسط على الاندثار، لكن التعبئة لم تجلب لأصحابها من قيادات الجيش وزناً لدى الجمهور المتطرف، حيث إعتاد قادة الجيش حين انخراطهم في السياسة أن يتبنوا مواقف غير تلك التي كانوا عليها في الجيش من منطق معرفتهم أن القوة لا تجلب الأمن ولن يكون بمقدورها تحقيق الاستقرار وهو ما لا يود الجمهور المتطرف سماعه، لذلك لم يغير دخول أيزنغوت حلبة السياسة شيئاً في الخارطة الحزبية وسيجد نفسه عما قريب يلحق بركب الإخفاق الذي مني به العديد من رؤساء أركان الجيش السابقين في السياسة مثل شاحاك ويعلون وموفاز وبراك.