زيارة مقبرة الشهداء في لبنان رحلة خطرة جدًا في المجال الحيوي الذي يربط بين الدنيا والآخرة بين ما استقر في الذاكرة والقلب والمرجعية الفكرية، وبين نظرات الحُب الطاغي الباغي، ودموع الحزن المتبادلة مع الهواء الرطيب الذي يحييك حين تجول بين قبور الشهداء الأحياء.
أنت في المرقد الأخروي تجول بين الأرواح المحلّقة، ورماد الاجساد المسجاة ترتفع فوقها الشواهد العالية، وكأنك على بساط الريح محمولٌ.
فكيف لك أن تقابل السنوات المتفاوتة، والتجارب المختلفة، والضلوع ذات الحواشي والقلوب المفعمة بالحُب لفلسطين إلا في مساحة الروح التي تدفع الى رئتيك كثير من الروائح العطرة رغم الاضطراب.
وكيف لا، وأنت في حضرة النقاء والبهاء وزمن الأفذاذ الذي أنتج ثورة بساط الريح وحطّم أسطورة النهاية المتوهمة، وفرض بداية ستتواصل حتى تحقيق ما آمنوا به وماتوا دونه، إنه النصر.
كنتُ متشوقًا للقاء المهندس القائد البطل كمال عدوان (من قرية بربرة) مسؤول إعلام الثورة، والقطاع الغربي-الأرض المحتلة، وعضو مركزية فتح، وأحد قادة الثورة ومفكريها ومؤسسيها الأوائل، وهل منكم من يلومني؟ لا أظن، لاسيما وقد ابتسم لي من البعيد! وهو ذاك الرجل الأنيق الفاتن الذي استطاع أن يحفر بالعقول مسارَ الثورة المستمرة مع زملائه الرواد الأوائل الذين مهّدوا للصباح أن يشرق بفجره المحترق كما زميله وزميل العملاق ياسر عرفات، الأخ أبويوسف النجار(من قرية يبنا).
وللمصادفة الثرية أن تجد كل من الثلاثي أو الرباعى مسجى بجانب بعضه البعض حيث يتجاور الكبيرعضو اللجنة التنفيذية للمنظمة كمال بطرس ناصر(من غزة-بيرزيت) وأحمد كمال عبدالحفيظ عدوان، ومحمد يوسف النجار تحت خميلة ظليلة. ومعهم تنظر بعين الحدب الأخت رسمية أبوالخير (أم يوسف) زوجة الأخ أبويوسف النجارالمناضلة الشجاعة التي تصدت للغزاة الإرهابيين الصهاينة من كتيبة الاغتيالات فنالت الشهادة مع زوجها البطل (قتلها الإرهابي أيهود باراك شخصيًا كما اعترف لاحقًا).
كمال عدوان صاحب المقولة الشهيرة "نعيش بأملنا فنحوّله إلى حقائق.. ويعيشون بيأسهم فيستسلمون"، وأبويوسف يؤثرعنه وحدويته ودعوته الدائمة إلى تجنب المظاهر والتصرفات التي قد تسيء إلى العلاقات الفلسطينية اللبنانية.
أما كمال ناصر (ولد في غزة وتربى في بيرزيت) الشاعر المرهف والمثقف الجميل، عضو تنفيذية المنظمة ورئيس تحرير صحيفة فلسطين الثورة حتى استشهاده، الذي قال وصدق: "نحن هنا رغم الأذى والجحود.. مواكبٌ تمضي وأخرى تعود.. نحن هنا نفجرُ الإيمان في دربنا نورًا فينمو في ثرانا الوجود". والذي أطلق عليه الشهيد القائد العظيم الراحل صلاح خلف (ابوإياد) لقب ضمير الثورة الفلسطينية، فهو رابضٌ هناك في مقبرة الشهداء تعلوه شفتيه بسمة الثقة بالتحرير، بقرب زميليه في حوارمتواصل وعناق أبدي.
عيون العشق النابضة بالحياة في الشهداء، الأموات الأحياء (وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتًۢا ۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ-آل عمران 169) كانت ترحّب بي، وتناديني أن ادنو وأقترب، فكدتُ اسمع كل مضمون حوارهم المتواصل، لولا صوتهم الخفيض.
كان كمال عدوان يناقش بحدّة وصرامة، فيحدد أشكال المقاومة الشعبية المطلوبة في فلسطين اليوم من خُماسية التوسع بالأعداد وبالمكان وبالزمان (تعددية الأمكنة والأزمنة لفعاليات الاشتباك) وبالبرنامج الوطني الكفاحي المشترك الذي لامناص منه، وبالقيادة الواحدة بالدم والمنجل والقرار، فلم يجادله الأديب الفذ كمال ناصر الذي هز رأسه موافقًا، إنما كان لتدخل أبويوسف النجار بالحوار أن أضاف بعدًا آخر هو بُعد الالتفاف العربي رغم الحائط العربي المنخفض حاليًا إذ لا بديل عنه للنجاح، ومضيفًا أهمية البُعد العالمي... وسمعت أبوحسن سلامة يصرخ من البعيد بأن لا تنسوا البُعد الامني والطابور الخامس.
دُفن في مقبرة الشهداء في بيروت كما تورد الموسوعة ابتداء من عام 1968 شهداء الفكر والثقافة والعمل الفلسطيني السياسي والمسلح.
دُفن في المقبرة عددٌ كبيرٌ من الفلسطينيين والعرب الذين سقطوا في المواجهات مع العدوان الصهيوني فداءً لفلسطين والأمة، وفي الحرب الأهلية اللبنانية، وشخصيات تاريخية وطنية فلسطينية مثل الكبير الحاج أمين الحسيني، وقادة ومسؤولين في فصائل منظمة التحريرالفلسطينية مثل الأديب قارع الخزّان وصاحب البرتقال غسان كنفاني، والشاعرالجبل الأشم كمال ناصر، والقياديان العلمان كمال عدوان، وأبو يوسف النجار، والفهد المتوثب علي حسن سلامة (أبوحسن)، ومفكر الفقراء ماجد أبو شرار، والصاخب شفيق الحوت.
كما تضم المقبرة رفات خليل عز الدين الجمل الذي يعدّ أول شهيد لبناني في الثورة الفلسطينية، والشاعر السوري الرائع كمال خيرت بك، وأحمد اليماني (أبوماهر) القيادي الكبير في الجبهة الشعبية، ومحمد العدناني (الشاعر والكاتب الكبير)، ومروان كيالي (نائب قائد كتيبة الجرمق) وغيرهم.
في المقبرة كذلك نصبٌ تذكاري لضحايا مجزرة تل الزعتر(1976م) ذاك المخيم الأسطورة بالتصدي والصمود، وقبرٌ رمزي لمقاتلي الجيش الأحمر الياباني الذين سقطوا في عملية مطار اللد (1972)، كما يقع بالقرب منها قبرٌ جماعي عليه نصب تذكاري لضحايا مجزرة العصر مجزرة صبرا وشاتيلا (1982م) التي مرّغت يدي الإرهابي شارون وأتباعه بالوحشية والدماء.
كانت يد ماجد أبوشرار تلوّح لي من البعيد، فهو يعلم أننا لا ننساه كما كل زملائه، فأقبلت عليه مستفسرًا عما غمض من مسائل واجتهادات فترة صراع التيارات الفكرية داخل حركة فتح، فأشار للرحابة والانفتاح الحركي على مختلف التيارات والاجتهادات دون قمع فكري أوإرهاب أو إقصاء، ولكن في انخراط لصراع الأفكار وحوارات المفكرين وأصحاب الرايات الحمراء والخضراء والسوداء. وكما أشار لاحقًا المفكر الكبير منير شفيق أطال الله بعمره في كتابه الهام من جمر الى جمر.
ملك العبور بين حنايا التاريخ فيما أورثه الآباء للأبناء، وجدنا الأمير الأحمر أسطورة الفهد المتوثب البطل قائد قوات ال17 أبوحسن سلامة (مواليد قوليا) الذي شابَه أباه المناضل الثائر فما ظلم، وجدناه رابضًا هناك في ذات المقبرة يقرأ في كتاب التاريخ ويعلّم الأقران والزملاء معاني التضحية والوفاء، والبُعد الأمني الوطني، ومعاني الانتماء الحبيس بين الضلوع الذي حين يزفره لمرة أو اثنتين يغطي دائرة بقطر فسيح.
كانت النداءات متداخلة من بين الشهداء الكُثُر بالمقبرة الصامدة، فذاك يعرضُ فكرًا وذاك يعرض قيمة معنوية سامية، ويدلّك على سُبُل التضحية والعطاء، وآخر يمد لك يد العطف واللمسة الأبوية الحانية، وعيون الاندفاع نحو التحقيق بلا مواربة أوزعيق، فتكاد تنفصل عن ذاتك الترابية لتبقى ملتصقًا الى الأبد بذاتك السماوية.
لم نستطع أن نخرج من المقبرة-المرقد بسهولة، فحملناها معنا بأرواحها السامية المحلّقة بين الضلوع العطشى، ومساحات السماء الزرقاء وعيون النصرالمؤزر بإذنه تعالى.