واشنطن وطهران.. "فوق الصفر تحت التوريط"

تنزيل (9).jpg
حجم الخط

بقلم عريب الرنتاوي

 

 

في حوارية «عن بُعد»، مع ثلة من الشخصيات السورية المعارضة، في الداخل والمهجر، سألني الصديق الأكاديمي المقيم في كندا، عمّا إذا كان جو بايدن يحمل في دواخله ذات المشاعر والمواقف التي اعتملت في صدر رئيسه ومعلمه السابق، باراك أوباما، حين كان الأخير رئيساً والأول نائباً له، حيال العرب والإسلام السنّي، تضعهم في مرتبة متأخرة عن الفرس والإسلام الشيعي، فقلت: لا أدري، ولست عالماً ببواطن الرجال والقادة، لا سيما حين يشغلون أهم «وظيفة» في العالم، رئاسة الولايات المتحدة.
لكن ما أعلمه علم اليقين، أن مياهاً كثيرة قد جرت في أنهار المنطقة خلال السنوات السبع أو الثماني الفائتة، ربما تكون غسلت ما في صدر أوباما من مواقف ومشاعر، ومن باب أولى، أحدثت تغييراً في نظرة ومواقف خلفه. الأمر الذي لا جدال فيه، أن أوباما كره العرب وأحب الإيرانيين، حتى أن مستشاره بن رودس، كشف في كتابه «العالم كما هو»، عن «تجربة في العشق» كان الرئيس الأسبق يعيشها مع طهران، وهي ما حدت به إلى فتح قنوات اتصال مبكرة معها، وولّدت لديه استعداداً أكبر لتقديم «عروض سخية» لقيادتها؛ بغرض إتمام الاتفاق النووي وتطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي.
أما الموقف من الإسلام الشيعي، فالحق يُقال: إن أوباما لم يكن وحده من فضّل هذه المدرسة الفقهية في الإسلام السياسي، بل امتد الأمر ليشمل مروحة واسعة من المؤسسات والقيادات الأميركية والغربية، خاصة أن ولايتَي أوباما، تزامنتا مع صعود غير مسبوق في تاريخ المنطقة والعالم، لظاهرتَي الإسلام السياسي والإسلام المسلح، ومن المدرسة السنّية أساساً.
وفيما كانت واشنطن على رأس الغرب، تسعى لاحتواء وتوظيف الإسلام السياسي السنّي في طبعته «الإخوانية» زمن الربيع العربي، كانت تعد العدة لجولات دامية مع «الإسلام المسلح»، السنّي أيضاً، في سورية والعراق وغير ساحة.
اليوم، يبدو المشهد وقد انقلب رأساً على عقب: الإسلام السياسي بدأ رحلة التراجع والانكماش في مختتم الولاية الثانية لأوباما، بدءاً من حزيران 2013 في مصر، وصولاً إلى ما شهدناه مؤخراً من انهيارات لنفوذه وشعبيته في كل من المغرب وتونس والعراق، وغيرها من الساحات.
والسلفية الجهادية، ممثلة بطبعتها الأكثر تشدداً ودموية: «داعش»، دخلت في مرحلة «أفول» بعد انهيار «خلافتها» على ضفتَي الحدود بين سورية والعراق. وتنظيم «القاعدة»، لا يكاد يُذكر إلا عند تصفية أحد كبار قادته، وفرعه الأكثر حيوية ونشاطاً، في «بلاد الشام»، مر ويمر بمرحلة تكيّف وإعادة تأهيل، تدفع بالجولاني لخلع الزي الأفغاني وارتداء «السموكن»، ليأكل الطعام ويتفقد الأسواق، ويفتتح الأنشطة ويرعى معارض الفنون التشكيلية، وهو الابن الشرعي لمن دمّروا صروح «باميان» لتنافيها مع «شرعهم» و»توحيدهم».
ليس مهماً بعد الآن، إن كان للإسلام الشيعي مكانة متقدمة على الإسلام السنّي في لائحة تفضيلات بايدن أو غيره، فكلتا المدرستين تراوح ما بين «الأفول» و»التأزم». خبا نجم الإسلام السنّي، بالذات في طبعته «الإخوانية»، والإسلام الشيعي يقف على شفا حربٍ أهلية في العراق، ويعاني الانسداد في لبنان بعد الانتخابات النيابية الأخيرة.
صفقة النووي المرجح إتمامها بين واشنطن وطهران قريباً، ليست في واقع الحال سوى «الخيار الأقل سوءاً»، إنْ من منظور واشنطن، أو حتى من منظور طهران، وهي إذ تؤذن بفتح صفحة جديدة بين إيران والمجتمع الدولي، فليس معنى ذلك أن الخلاف قد انطفأ حول بقية الملفات الأخرى، بدءاً ببرنامج إيران وانتهاءً بدورها الإقليمي، الذي تفضل واشنطن دوماً وصفه بـ»المزعزع للاستقرار».
وما حصل في الشمال السوري الشرقي، خلال الأيام الماضية، من «معارك صغيرة» بين حلفاء إيران والقوات الأميركية، ربما يعطي مؤشراً على شكل العلاقة الأميركية - الإيرانية في مرحلة ما بعد الاتفاق: حروب صغيرة متنقلة، غالباً بالوكالة وأحياناً بالأصالة، دون المقامرة بفقدان السيطرة، أو بلغة أهل زمان «فوق الصفر تحت التوريط» لمن يذكر هذه المعادلة الناظمة للعلاقة بين القوميين العرب وجمال عبد الناصر في سنوات ما قبل «النكسة الكبرى».