أثارت مقالتي الأسبوع الماضي (مؤسسات منظمة التحرير تحت المجهر) جدلاً ونقاشاً وتساؤلات عدة، كما تلقيت بشأنها ملاحظات وانتقادات، كلها تستحق الاحترام والنقاش، ولقد اعتبرت هذا الجدل والنقاش دليل اهتمام وطني لا شك فيه بأوضاع مؤسسات م. ت. ف. وضرورة إصلاحها، وإخراجها من أزماتها، لتستعيد حيويتها وتعزز دورها السياسي والقانوني، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
ولعل أهم ما وصلني من تساؤلات – وفقاً لتقديري – أسئلة تتعلق بموقف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين من المؤسسة الوطنية، من بينها التالي:
• ما دمتم في الجبهة الديمقراطية تعترفون بهذا الواقع السلبي لمؤسسات م. ت. ف، فلماذا تشاركون فيها؟
• ألا تعتبر مشاركتكم في المؤسسة غطاءً سياسياً لصالح سياسة الهيمنة والتفرد وسياسة أوسلو؟
• هل تعتقدون أنكم قادرون، من خلال المشاركة في المؤسسة على تحقيق الإصلاح المؤسساتي والسياسي؟
وهي كلها أسئلة جوهرية تتعلق باستراتيجية الجبهة الديمقراطية ورؤيتها لمنظمة التحرير وموقعها، ولسياسة الهيمنة والتفرد وكيفية معالجتها، ولاتفاق أوسلو، وكيفية الخروج منه، وهذا هو الموضوع الذي سأتطرق له في هذه المقالة.
لا بد من إعادة التأكيد أن الجبهة الديمقراطية، ومنذ لحظة تأسيسها في 22/2/1969، اعتبرت م. ت. ف. (حتى بشكلها وبمؤسساتها في تلك الأيام) الإطار الوطني الذي يوحد الشعب الفلسطيني في كافة مناطق تواجده، والإطار الوطني الذي يقطع الطريق على الأطراف الدولية التي ترفض الاعتراف بالفلسطينيين شعباً، وقطع الطريق على أطراف عربية كانت تحاول الادعاء بتمثيل الشعب الفلسطيني، ما يؤدي إلى طمس هويته الوطنية، وإعادته إلى نقطة الصفر، باعتباره مجرد تجمعات سكانية مشتتة في الدول المضيفة، وباعتبار تلك التجمعات مجرد لاجئين، أي بلغة فصيحة: لا وجود لشعب اسمه الشعب الفلسطيني.
كما اعتبرت الجبهة م. ت. ف. الجبهة الوطنية المتحدة لشعب فلسطيني، في ظل (أولاً) حالة الانتشار الجغرافي للشعب، وفي ظل (ثانياً) التعددية الفصائلية في الحالة الوطنية، ما يتطلب، وفق مبادئ النضال الوطني التحرري في مواجهة الاستعمار والاحتلال، توفير إطار توحيدي، يستوعب كافة أطراف الحركة الوطنية، رغم تباين أصولها الفكرية والحزبية وتعدد رؤاها للقضية، ولعل تجارب فيتنام (التي كانت الظاهرة الأبرز في تلك المرحلة) والثورة الجزائرية، قدمت للتجربة الفلسطينية دروسها لتأخذ منها ما يتلاءم مع الحالة الخاصة بشعب فلسطين ومقاومته.
ومنذ ذلك الوقت، والجبهة الديمقراطية عضو ثابت في م. ت. ف. لا يغادرها أياً كانت الأسباب والمعطيات، وحتى عندما علقت عضويتها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فإنها لم تغادر المنظمة، بل بقيت عضواً في كافة مؤسساتها الأخرى. جاء تعليق العضوية احتجاجاً على الانقلاب السياسي على البرنامج الوطني بالتوقيع على اتفاق أوسلو. لكن الجبهة الديمقراطية لم تسحب اعترافها بالمنظمة، وموقعها التمثيلي، ولم تشكك بهذا الموقع، لكنها عارضت الاتفاق، وما يمليه على المنظمة والشعب وحركته الوطنية من استحقاقات، وأعلنت نفسها حزباً معارضاً لاتفاق أوسلو، من داخل المؤسسة ومن خارجها، وحتى عندما صادق المجلس الوطني في دورة عمان عام 1984 على إطار العمل المشترك مع الأردن، قاطعت كتلة الجبهة اجتماع المجلس الوطني، لكنها لم تشكك لا في شرعية قراراته ولا في شرعيته مجلساً وطنياً ممثلاً للشعب الفلسطيني، بل ناضلت إلى جانب الأطراف الأخرى، حتى إسقاط إطار العمل المشترك والعودة إلى برنامج العمل الوطني (البرنامج المرحلي).
• يسجل للجبهة الديمقراطية أنها لم تكن يوماً ما شريكاً في الأطر المحورية الفلسطينية التي نشأت في مواجهة م. ت. ف. أحياناً، بديلاً لها، وأحياناً للتشكيك في موقعها. وقد رفضت كل الضغوط الفلسطينية، والعربية والإقليمية، وحتى الدولية كالاتحاد السوفييتي، لمغادرة م. ت. ف. والالتحاق بأحد الأطر، وبقيت الجبهة الديمقراطية على ولائها للممثل الشرعي والوحيد لشعب فلسطين، ورفضها الانجرار إلى تفتيت هذا الإطار الوطني الجامع، والعبث به أياً كان الثمن الذي توجب عليها أن تدفعه من أجل ذلك، ولعلها دفعت في هذا السياق غالياً، لكنها لم تندم على ذلك، خاصة وأن الوقائع والتجارب أكدت صحة الموقف الاستراتيجي للجبهة الديمقراطية، حيث انتهت تلك المحاور، وانفرط عقدها، وبقيت م. ت. ف. هي الإطار الثابت، الذي هو الغطاء السياسي الرسمي للوجود الفلسطيني في العالم كله، ولعل الذين ما زالوا على خصام مع م. ت. ف. في صيغتها الحالية، والذين آثروا الاعتكاف عن المشاركة في مؤسساتها، لسبب أو لآخر، لا يتوقفون عن التأكيد على اعترافهم بالمنظمة، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
• لا بد من التأكيد أن الجبهة الديمقراطية ترتبط بمنظمة التحرير الفلسطينية بعلاقة وجدانية مميزة، إذ يحق للجبهة أن تفتخر على الدوام أنها كانت المبادر إلى اجتراح البرنامج المرحلي (النقاط العشر) الذي تحول إلى البرنامج الوطني لعموم الشعب الفلسطيني، والذي على أساسه احتلت المنظمة مكانتها العربية والدولية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وحسمت وحدة الشعب، وحسمت مسألة تمثيله خارج سياسة الإلحاق والتذويب.
ولا بد من التأكيد هنا، أنه لولا البرنامج المرحلي، الذي شق الطريق أمام م. ت. ف. نحو المجتمع الدولي، ونحو الشرعية الدولية، لذبحت المقاومة الفلسطينية من الوريد إلى الوريد، فقد كانت التحركات والسيناريوهات العربية والأميركية تعمل آنذاك على فبركة مؤسسات «أهلية» في المناطق المحتلة، «ترفع» الغطاء السياسي عن المقاومة، في خطوة تستكمل حرب أيلول (ديسمبر) 1970، غير أن البرنامج المرحلي الذي استجاب للمصالح الوطنية للشعب الفلسطيني؛ للاجئين في الشتات وللمناطق المحتلة، وللفلسطينيين في إسرائيل، قطع الطريق على المجزرة السياسية والدموية بحق المقاومة الفلسطينية وم. ت. ف. وشعب فلسطين. وليست مصادفة أن يخرج أهلنا في الـ 48 في 3/3/1976 يرفعون علم فلسطين ويهتفون لأول مرة أن م. ت. ف. هي ممثلنا الشرعي والوحيد.
• وحتى عندما انقلب اتفاق أوسلو على البرنامج المرحلي (الوطني) لم يسقط هذا البرنامج، بل تعزز موقعه عندما تحول إلى السلاح الوطني الجامع لكافة القوى المعارضة لأوسلو، لتدعو تحت رايته إلى إسقاط أوسلو وإعادة الاعتبار للبرنامج الوطني، وقد أثمر النضال داخل مؤسسات م. ت. ف. وفي الميدان، إلى خطوة تاريخية اتخذها المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في 5/3/2015، حين قرر الخروج من أوسلو، عبر خطوات عملية تعيد الاعتبار إلى البرنامج الوطني وأهدافه المشروعة في العودة وتقرير المصير والدولة المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، على حدود 4 حزيران (يونيو) 1967، وما زالت المؤسسة الوطنية تعتمد رسمياً البرنامج المرحلي، عبر سلسلة القرارات التي اتخذتها في الدورات المتعاقبة للمجلسين الوطني والمركزي وآخرها الدورة 31 للمركزي، في 6 شباط (فبراير) 2022.
• ما قيمة قرارات المؤسسة الوطنية بالعودة إلى البرنامج الوطني، ما دامت القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية تعطل تنفيذ هذه القرارات، ومتمسكة في الوقت نفسه باتفاق أوسلو؟
لا يمكن الإجابة على هذا السؤال المهم والجوهري، والبسيط في الوقت نفسه، إلا من خلال النظر (أولاً) إلى موازين القوى داخل المؤسسة وكيفية تركيبها، والنظر (ثانياً) إلى البنية الاجتماعية للطبقة السياسية المتسيدة في م. ت. ف. وفي السلطة الفلسطينية، ومدى ارتباط مصالحها الطبقية بدوام الحالة على ما هي عليه، تقودها سلسلة من الأفكار بأن المفاوضات (والمفاوضات وحدها) هي السبيل إلى الحل مع إسرائيل المدعومة بكل عناصر القوة من الولايات المتحدة، وأن الولايات المتحدة هي الطرف الدولي الوحيد القادر على الضغط على إسرائيل لتستجيب لحل القضية الوطنية. وإذا كنا لا ننظر إلى الوضع من هذين المنظارين، لا يمكننا قراءة الحالة قراءة صحيحة، لذلك لا غرابة أن تكون الجبهة قد طورت برامجها وخططها النضالية تحت ثلاث عناوين رئيسية: الوطني (في مواجهة الاحتلال والاستيطان)، والديمقراطي (في مواجهة تسلط السلطة والأجهزة)، والاجتماعي (في مواجهة التسلط الطبقي ومن أجل التغيير الاجتماعي السلمي المطلوب). وهكذا برنامج، لا يمكن تحقيقه بأسلوب وسلوك وحيد دون غيره، هو برنامج ميدانه مؤسسات م. ت. ف، حيث الصراع على البرنامج الوطني وآليات تطبيقه، وفي المؤسسات الحقوقية والأهلية والقطاعات الجماهيرية، دفاعاً عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي النقابات والمؤسسات النظيرة، وعبر سنّ القوانين الاجتماعية القائمة على العدالة الاجتماعية، في الجانب الاجتماعي، وهذا يؤكد ضرورة النضال داخل المؤسسة وخارجها من أجل التغيير، علماً أن التغيير لن يتم بالاستعانة بعصا سحرية بل بالنضال المتواتر وإحداث تغيرات تراكمية تؤدي في السياق إلى تغييرات نوعية، مدركين في نهاية المطاف، أن البرامج الوحيدة المؤهلة لأن تعيش وتحيا وتتطور، هي البرامج التي تقنع جماهيرها، التي تستجيب لمصالح الجماهير وتقنعها بصوابيتها وتحولها إلى سلاح للنضال بأشكاله المختلفة.
• كما من الأسئلة التي تطرح على الجبهة الديمقراطية التالي:
لماذا لا تنسحبون من اللجنة التنفيذية، وتسحبون الشرعية عن القيادة الفلسطينية الحالية؟
اعتقد أن السؤال خارج إدراك صاحبه لمعنى الشرعية الفلسطينية، فالشرعنة في الحالة الفلسطينية أكثر تعقيداً مما يظن البعض. الوضع الحالي للقيادة السياسية هو امتداد للشرعية الانتخابية التي جاءت بها إلى رئاسة السلطة الفلسطينية، فضلاً عن كون الشرعية الفلسطينية تستمد قسماً كبيراً من علاقاتها العربية والدولية، وما توفره هذه العلاقات من غطاء سياسي، وإلا فكيف نفسر لقاء الرئيس بايدن مع الرئيس عباس، وتوافد الوفود الأميركية والأوروبية إلى مقر الرئاسة في رام الله، واستقبال الرئيس عباس في أنقرة وباريس، وبرلين وعمان والقاهرة وغيرها من الدول العربية والعالمية.
ثم من يعتقد أن تعليق العضوية أو الانسحاب من اللجنة التنفيذية من شأنه أن ينزع الشرعية عن القيادة السياسية الفلسطينية، لا ينظر إلى الأمور من كافة جوانبها ألم يعلق وينسحب عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية ما بين استقالة وتعليق عضوية احتجاجاً على أوسلو. هل سقطت شرعية الرئيس عرفات، أم أن الذين انسحبوا فقدوا موقعهم الشرعي» في المؤسسة؟
كذلك من الخطأ النظر إلى الشرعية الفلسطينية من زاوية واحدة، فالشرعية لا تقتصر على الرئاسة بل هي أيضاً شرعية المجلسين الوطني والمركزي وشرعية قراراتهما، وهي أيضاً شرعية اللجنة التنفيذية وموقعها القيادي. وبالتالي فإن الجبهة تنظر إلى الشرعية الفلسطينية نظرة متكاملة:
شرعية المؤسسة وشرعية الأفراد، وهي بدفاعها عن قرارات المجلسين الوطني والمركزي إنما تدافع عن الشرعية الفلسطينية التي تنتهكها القيادة السياسية من خلال تعطيلها، وبالتالي لا يمكن أن تدافع عن قرارات المجلس الوطني والمركزي باعتبارها شرعية، وفي الوقت نفسه ترفض الاعتراف بشرعية المؤسسة التي أنتجت هذه القرارات
• سؤال أخير:
ما هو موقف الأطراف المعتكفة عن المشاركة في مؤسسات م. ت. ف. إذا ما دعيت إلى الحوار الوطني برعاية القيادة السياسية؟
بعد ساعات على انتهاء أعمال المجلس المركزي في دورته 31، أطلقت تصريحات لا تعترف بالنتائج السياسية والتنظيمية للمجلس المركزي.
وبعد يوم أو يومين، أطلق عضو اللجنة التنفيذية ورئيس دائرة المفاوضات فيها، الوزير حسين الشيخ، دعوة للحوار الوطني. كافة الأطراف ردّت بالإيجاب ورحبت بالدعوة علماً أن مطلقها عضو في اللجنة التنفيذية المنبثقة عن المجلس المركزي الذي قوبلت نتائجه السياسية والتنظيمية برفض الاعتراف بها.
ما معنى الحوار الشامل، تحت إشراف القيادة السياسية، والاتفاق على المخرجات المشتركة، وما الفرق بين هذا الحوار والمشاركة في مؤسسات م. ت. ف. وإذا كانت الذريعة أن اللجنة التنفيذية تحت هيمنة وتفرد القيادة السياسية، فإن معظم نتائج جولات الحوار ما زالت معطلة بسبب سياسة الهيمنة والتفرد، فلماذا «نعم» للعودة إلى الحوار خارج المؤسسة، و«لا» للحوار في أطر المؤسسة؟
خلاصة:
وكما أسلفنا فإن معركة الإصلاح السياسي والمؤسساتي، مسيرة واحدة لا يمكن الفصل بين محوريها، كما أن استراتيجية الإصلاح الديمقراطي تستدعي امتلاك الشجاعة لتحمل المسؤولية الوطنية، ومن يعتقد أن المؤسسة سوف تصلح نفسها بنفسها واهم بلا شك.
ومن يود أن يجلس في قائمة الانتظار، حتى الإعلان عن ولادة مشروع الإصلاح سوف ينتظر طويلاً.
الإصلاح داخل المؤسسة وخارجها، هذا هو خط الجبهة، ولقد أثبت جدواه في العديد من المحطات التي لا يمكن لأحد إنكارها