القضية الفلسطينية مأساة شعب:‏ جوانب إنسانية وأخرى سياسية!!‏

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

بقلم:د. أحمد يوسف

 

 

بادئ ذي بدء، علينا أن نُقرَّ ونعترف أن القضية ‏الفلسطينية لها أكثر من جانب وزاوية نظر، فهي قضية ‏إنسانية بامتياز؛ كونها مرتبطة بدعم ملايين اللاجئين ‏بمخيمات قطاع غزة والضفة الغربية وآخرين مثلهم في ‏دول الجوار العربي كالأردن ولبنان وسوريا، وتوفير ‏متطلبات العيش الكريم لشعب ما زال أكثره يرزح ‏تحت الاحتلال ويعاني من تداعيات الحصار والتشريد، ‏وهذه مسألة يتحمَّل جزءاً من مسؤوليتها المجتمع ‏الدولي، كما أنَّ العالم العربي والإسلامي لا يمكن ‏تبرئته من تبعات القضية في جوانبها الإنسانية ‏والأخلاقية وما ترتب على ذلك من تهتُّك في النسيج ‏الثقافي والاجتماعي والكيانية الوطنية، وما تُمثِّله من ‏أواصر تاريخية وحضارية.. ‏
وهناك بالطبع جانب سياسي مهم لا يمكن إغفاله أو ‏تخطِّيه، وإن تعددت مسؤولية الأطراف الإقليمية ‏والدولية في تحمُّل تبعاته؛ باعتبار أنَّ الأمم المتحدة ‏والدول الغربية هي من تعاطت مع القضية منذ بداياتها ‏في خمسينيات القرن الماضي وبعد كارثة التهجير في ‏العام 1948، وهي من أرسلت الوفود للتوفيق بين ‏جهات الصراع؛ أي العرب واليهود، وقدَّمت الكثير من ‏المقترحات وصيغ الحلول التي كان بالإمكان أن تمثل ‏مخرجاً ينهي حالة التدافع والصراع، ويحقق وضعية ‏الأمن والاستقرار للجميع من الفلسطينيين العرب ‏واليهود.‏
ومع الاعتراف بأن الحروب التي جرت في المنطقة قد ‏تعاظمت معها مُعاناة الفلسطينيين، وزادت جرَّاء ذلك ‏الأعباء والمسؤوليات المادية والقانونية والإنسانية على ‏كاهل المجتمع الدولي، وفرضت عليه العمل لإيجاد حلٍّ ‏سلمي للصراع؛ إما من خلال (حلّ الدولتين) أو (حلّ ‏الدولة الواحدة- ثنائية القومية)، وهي الأفكار الأكثر ‏تداولاً على المستويات الرسمية أو على ألسنة النخب ‏السياسية في الداخل والخارج.‏
ومع تنامي الأبعاد الإنسانية وتزايد الاحتياجات الإغاثية ‏في قطاع غزة، وبنسبة أقل في مخيمات الضفة الغربية، ‏تتعالى النداءات بضرورة إيجاد حلٍّ سياسي، يُنهي حالة ‏المواجهات التي لم تتوقف لأكثر من سبعة عقود، ‏وخلّفت عشرات الآلاف من الشهداء، وملايين النازحين ‏في مشاهد من البؤس الإنساني وغياب الاستقرار ‏المجتمعي، وفتحت لآلاف المعتقلين والسجناء ‏معسكرات مؤصدة أبوابها، وزنازين لم تفرغ من ‏نُزلائها من الشباب والنساء، بكل ما تُمثِّلُه هذه المشاهد ‏من مآسي وأحزان، ومن أعباءٍ لم تنتهِ تبعاتها المادية ‏على المُتنحِّين من الدول العربية والغربية وواجهاتها ‏الإغاثية؛ كالأونروا وهيئة الصليب الأحمر الدولي ‏وغيرها، بحثاً عن رؤية سياسية تشكّل حالة الخلاص ‏لهؤلاء اللاجئين والنازحين من واقعهم المأزوم معيشياً ‏وإنسانياً.‏
لا يمكننا الحديث عن حجم المساعدات الإغاثية ‏والتعليمية والصحية وأشكال الدعم الإنساني الذي تمَّ ‏تقديمه لهؤلاء لأكثر من سبعينَ سنةٍ، إلا أنه بلُغة ‏الأرقام المالية قد تجاوز مئات المليارات من ‏الدولارات. ومع ذلك، لم تنتهِ مشهدية المواجهات ‏المسلحة ولم تتوقف صور المجازر الدامية، ولم ينجح ‏أحدٌ في وضع حدٍّ للصراع، إذ ما تزال المعارك ‏مفتوحة، والحربُ لم تَضع أوزارها بعد، ولا يظهر في ‏الأفق إمكانية حدوث ذلك في الزمن القريب. ‏
نعم؛ الجوانب الإنسانية ما تزال هي المحرك لحيوية ‏المجتمع الدولي في دعم وإسناد الحملات الإغاثية، ‏وخاصة المؤسسات التي تمَّ إنشاؤها مع بداية النكبة ‏ومخيمات اللجوء مثل وكالة (الأونروا)، وهي ما تزال ‏تؤدِّي رسالتها الإنسانية في إغاثة وتشغيل اللاجئين، ‏وتسعى لتوفير متطلبات الحد الأدنى الذي يحفظ ‏للفلسطينيين كرامتهم الإنسانية، وإبقاء شعلة الأمل مُتَّقدة ‏بأنَّ غداً لناظره قريب.‏
وإذا نظرنا في مخرجات العشرات من استطلاعات ‏الرأي، فالنتائج في خلاصاتها تقول إن العمل الإغاثي ‏والجهود الإنسانية وحدها لا تكفي لإخراج الفلسطينيين ‏من واقع البؤس والحرمان، والحاجة لتخطي ظروف ‏المعاناة والمسغبة وغياب الشعور بالأمن والاستقرار، ‏إذ أنَّ هذا مشهد يحتاج الخلاص منه إلى دولة ووطن، ‏أما صيغة "شعب تحت الاحتلال" فستظل معها ساحات ‏المواجهة المُسلَّحة مفتوحة بلا نهاية، حتى وإن توفرت ‏ظروف العيش الكريم. فـ"شعب تحت الاحتلال" تعني ‏المواطنة من الدرجة الثانية أو الثالثة، وتعني نظام ‏الفصل العنصري (الأبارتايد)، وتعني الحرمان من حق ‏تقرير المصير، وتعني استمرار النضال لوقف التطهير ‏العرقي ووقف الاستيطان ونهب ما تبقى من الأرض ‏الفلسطينية.‏
‏ لقد شاهدنا كيف تمكنت أوروبا من إنهاء صراعاتها ‏الدينية والقومية، وأوقفت أطماعها الاستعمارية التي ‏أكلت الأخضر واليابس في آخر حربين عالميتين؛ راح ‏على مسارح المواجهة العسكرية فيها قرابة المائة ‏مليون إنسان، ولولا التسويات السياسية والمُحاكمات ‏التي طالت مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ‏الإنسانية، التي أعقبت تلك الحروب، وكذلك الهبَّات ‏الإغاثية والإنسانية الضخمة وحملات إعادة إعمار ما ‏دمَّرته الحرب كمشروع مارشال، لما استطاعت ‏أوروبا أن تستعيد الأمن والاستقرار فيها، وأن تتمكن ‏من خلق ثقافة التعايش والتسامح والمواطنة الكريمة ‏بين شعوبها، رغم تباينات الدين والثقافة واللغة ‏والتاريخ والتنوعات العرقية والطائفية المختلفة، ولعل ‏اتحاد البنلوكس شاهد على ذلك، هو اتحاد سياسي- ‏اقتصادي وتعاون دولي حكومي لثلاثة دول متجاورة ‏في أوروبا الغربية هي بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ.‏
السؤال الذي يطرح نفسه: إلى متى ستستمر حالة ‏المعاناة ووضعية "شعب تحت الاحتلال" قائمة، وإلى ‏متى يبقى الدعم الأممي فقط يعمل للتخفيف من لأوائها؟ ‏وهل هناك شيك بنكي ممنوح للفلسطينيين -على بياض- ‏للتأقلم الدائم مع حالة الاحتلال؟ أم أنَّ هناك محطَّة ‏تُوجِبُ على المجتمع الدولي التوقف عن التعامل مع ‏القضية الفلسطينية كقضية إنسانية، وقول كلمته: كفى ‏احتلالاً، لقد آن الأوان للحلِّ السياسي أن يأخذ مجراه، ‏والسماح للشعب الفلسطيني بتقرير مصيره وإقامة ‏دولته الحرة المستقلة.‏
إن الفلسطينيين لا ينظرون فقط إلى قضيتهم من جانبها ‏الإنساني؛ أيّ توفير الطعام والشراب كمتطلب وجودي، ‏إذ أن الأمن والأمان والحياة الحرة الكريمة تحتاج ‏بالدرجة الأولى إلى كيانٍ سياسي، وأن صناعة هذا ‏الكيان الذي تتوفر مقومات وجودة هي مسؤولية ‏المجتمع الدولي، والذي تنعقد على كاهله فرص الحياة ‏لمثل تلك الحلول.‏
باختصار.. إنَّ معاناتنا الإنسانية مسؤول عنها بالدرجة ‏الأولى هو الاحتلال والمجتمع الدولي الغربي المتواطئ ‏معه، وإذا لم تشهد القضية حلاً سياسياً ينهي الصراع ‏فلا خير ولا فائدة من كلِّ الجهود الأخرى، ‏فالفلسطينيون ليسوا أرقاماً ولا قطيعاً من الغنم. نعم؛ ‏الخبز مكونٌ أساس للعيش، ولكنه لا يكفي لحياة حرة ‏كريمة.. فالوطن هو الهوية والوجود. ‏