هذه ليست أزمة إنسانية

تنزيل (13).jpg
حجم الخط

الكاتب: عاطف أبو سيف

 

في الوقت الذي يحاول فيه نتنياهو تحويل الحرب في غزة لمسألة اقتصادية على طريقة فهمه للصراع فإن العالم يتجه للتأكيد على أن المسألة الفلسطينية مسألة سياسية بحتة.
وفيما تظهر الصور المرعبة من غزة التي بدورها لامست حتى قلباً صلداً كقلب ترامب، فإن الصورة الأخرى التي تأتي من عواصم العالم تتحدث عن انزياح مهم في مواقف تلك الدول بخصوص الاعتراف بالدولة الفلسطينية، رغم أن الكثير من تلك التصريحات تقع في خانة «التفكير» و»الوعود» لكنها في المجمل مهمة لجملة أسباب ربما أهمها أنها تأتي رداً على توجهات نتنياهو ودفعه باتجاه تناسي الصراع جملة وتفصيلاً وتحويله إلى مجرد قضية مساعدات.
وعلى أهمية المساعدات وضرورة إدخالها من أجل التخفيف من حجم الكارثة الإنسانية في غزة فإن التصريحات الأخيرة الصادرة من أكثر من عاصمة أوروبية تعكس صحوة متأخرة للعالم تظل مهمة يجب استثمارها.
نتنياهو نجح في خلق واقع في غزة يجعل النظر إلى الأزمة الإنسانية فيه أمراً  أكثر إلحاحاً من فكرة إنهاء الحرب.
وضمن سلسلة من السياسات والخطط صارت الصور التي تخرج من غزة تعكس واقع الحال اليومي للجياع وللطوابير أمام التكيات وللصراع على الطحين وللأجساد المنهكة التي تخر وتنهار في طريقها لتلقي القليل من الطعام.
الصور التي عكست قسوة الواقع المَعيش في غزة قالت الكثير عن ما قامت به إسرائيل ضد المدنيين العزل في القطاع.
ورغم أن أحداً لا يمكن له تبرئة حماس بوصفها السلطة القائمة بالأمر الواقع وبوصفها كانت تسرق المساعدات كما يعترف بعض الناطقين باسمهم الذي يتحدثون على الفضائيات كمحللين في زلات لسان غير محسوبة، فإن الاحتلال برع في إيصال الأزمة الإنسانية إلى ذروتها ونجح في خلق واقع يهدف من ورائه إلى الضغط على الفلسطينيين كافة من أجل تحقيق أهداف حربه التي لم يعد أحد يؤمن بها سواء من جهة تحرير أسراه أو القضاء على حماس، وهذه قضية أخرى لكن وجبت الإشارة إليها.
الصراع في غزة هو صراع على لقمة العيش وعلى كيس الطحين.
وربما بنشر حماس للفيديو الذي ظهر فيه الأسير الإسرائيلي منهكاً من شدة الجوع وعبارات من باب» يأكلون مما نأكل ويشربون مما نشرب»، ساعدت في تعزيز وجهة نظر نتنياهو بأن الأزمة أزمة مساعدات وقدمت له هدية لا أعرف إن كانت مجانية، فبعد مسارات الحرب منذ السابع من أكتوبر لم يعد شيء موضع يقين، أقول إن نشر الفيديو بدا جزءاً من مساهمة حماس في رؤية نتنياهو بأن الأزمة أزمة اقتصادية وأزمة طعام وبالتالي فهي قدمت دليلاً آخر على صحة ما يقوله نتنياهو.
لست في معرض مناقشة استراتيجيات حماس ولكن يبدو أن ثمة تناغماً بحاجة لتفسير في هذا الأمر.
القضية في غزة ليست قضية مساعدات وليست قضية طعام.
لسنا بحاجة لكرت تموين جديد ولسنا بحاجة لوكالة غوث أخرى، قضيتنا سياسية بامتياز، قضية شعب سلبت أرضه ويريد استعادتها ويريد حريته ويريد دولته. نتنياهو الذي حاول بكل السبل جر القيادة الفلسطينية إلى مربع السلام الاقتصادي والحديث عن تبادل السلام مقابل حياة كريمة تحت الاحتلال وجد ضالته في غزة. القيادة الفلسطينية وقفت صلبة في وجه هذه المقاربة وانهارت مفاوضات السلام منذ قرابة عقد ونصف العقد من الزمن لأن الفلسطينيين يعرفون الحقيقة الوحيدة في هذا الصراع، هي حقوقهم السياسية.
ليسوا جياعاً يريدون طعاماً وإن كانوا يعانون من الجوع، هم شعب تمت سرقة أرضه وتم طرده منها ويريد أن يعود إليها.
للأسف هناك في غزة من لا يفهم ذلك، أو أنه يشارك عدوه في نفس وجهة نظره.
الواقع الإنساني في غزة مؤلم والمجتمع الدولي العاجز عن التدخل وعن تفعيل بنود ميثاق الأمم المتحدة وتحديداً الباب السابع (وهو ما يجب أن يكون التوجه القادم للقيادة الفلسطينية)، ويجب العمل بكل السبل من أجل التخفيف من معاناة الناس، لكن يجب وأمام كل ذلك ألا ننسى أن الصراع في غزة هو صراع سياسي بامتياز ويقع ضمن سياسات العدو لإبادة الشعب الفلسطيني وتصفية حقوقه بشكل كامل. وحين نقول إن النكبة جريمة مستمرة فإن ما يجري في غزة هو دليل حي على ذلك، بمعنى أن محاولات تصفية وجود شعبنا عن أرضه لم تتوقف منذ النكبة حتى اللحظة.
وسياسات التجويع ليست إلا جزءاً من هذه السياسات الهادفة للضغط على السكان لترك البلاد، فما لم تنجح القوة العسكرية في فعله ستنجح المعدة في تسريعه.
لذلك يجب رفض هذا المنطق وبدلاً من السعي للالتفاف على الشرط الإنساني والواقع المَعيش اليومي والانخراط في «ندية» وهمية مع الاحتلال حول ذلك كما فعلت حماس بشريطها الذي أساء أكثر مما أفاد، يجب التأكيد على أن انتهاء الحرب ووقف العدوان وانسحاب العدو وتجسيد الدولة الفلسطينية هو المدخل الوحيد لاستعادة بعض الحقوق الوطنية الفلسطينية.
هذه هي الطريق وحماس تعرف أن ثمة «نقرة» صغيرة على الباب يجب أن تقوم بها وتعرف أن الباب المقصود هو باب المقاطعة.
فيما حاول نتنياهو أن يقدم حلولاً التفافية أيضاً للأزمة الإنسانية من خلال السماح للدول بإسقاط المساعدات من الجو على قطاع غزة، وفيما استجاب الكثير من الدول لمثل هذا الاقتراح ليس من باب قناعتها بأن هذا هو الحل المناسب بل لرغبتها في التخفيف من واقع الأزمة الإنسانية وأيضاً إقراراً منها بالعجز وعدم المقدرة على الضغط على إسرائيل، فإن الإجابة الكبرى جاءت بالاعتراف بالدولة الفلسطينية أو الوعود حول ذلك.
مرة أخرى هذه فرصة يجب استثمارها من أجل تثوير المواقف الدولية سياسياً وعدم ترك عواصم العالم للضغط الإسرائيلي من أجل التراجع مثل أن يتم تخفيف الأزمة الإنسانية وتمييعها وربما إنهاؤها مقابل عدم الاعتراف.
يجب أن تعمل الدبلوماسية الفلسطينية على الفصل بين الأمرين.