بدا الرئيس أبو مازن في خطابه الأخير في بيت لحم لمناسبة إحياء عيد الميلاد للسيد المسيح بحسب التقويم الشرقي، اقرب ما يكون من استعادة روح هذا الواعظ الجليل الذي ربما كان يعظ تلاميذه قريباً من هذا المكان، وكما لو انه يمثل دور ذاك الرجل الطيب الذي يحاول التحدث الى جاره المزعج والمشاكس، لثنيه عن حماقاته، بتقديم النصح له. وبدا الرجل في مزاج طيب في المجمل او في الشكل وكأنه يرسل برسالة الى هذا الجار المؤذي، بأنه لا يزال رغم تقدمه في العمر يتمتع بصحة جيدة وبروح صبورة هي سمة الأنبياء والرجال الحالمين الذين يهزؤون من ألاعيب خصومهم الصغار وضيق افقهم.
لكن الوجه الآخر من الصورة التي ظهر عليها الرئيس انه كان أوضح منه من أي وقت آخر، في التعبير عن مزاج رجل يجد نفسه وشعبه في خضم حالة حرب، وعزم أمره على المواجهة مع عدو لا يرعوي حتى النهاية. ان مزاجه مزاج من يواجه معركته الفاصلة او الأخيرة، وهو هنا كان أقرب الى التماهي مع أسلافه المفتي الحاج أمين الحسيني كما الشقيري وعرفات.
والاستعارات الدالة على هذا النفس القتالي أكثر كثافة في الإبانات التي يعكسها الخطاب. نحن حراس هذه البلاد المقدسة وسوف ندافع عنها ونحميها بعيوننا وسواعدنا، وهي لنا ولا يحلمَنَّ أحد بانهيار السلطة وما بعد السلطة الدولة، الدولة، ولا خيار آخر، ونحن الباقون هنا الى يوم الدين فوق هذه الأرض، ونحن السنة والشيعة والدروز، المسلمون والمسيحيون الأرثوذكس واللاتين ونحن الأرمن والكاثوليك، الفاتيكان ومكة، تحالف الأربع وثلاثين دولة بقيادة السعودية والسبع وخمسين دولة إسلامية وعربية ونحن هنا في هذا السياق مع السعودية. حسناً أيها العدو الغبي بعد كل ذلك من معك انت؟ وكيف تخرجنا من هنا إذا كنا نحن مستعدين طوال الوقت لقتالك ولدينا ما نقوم به على الحلبة الدولية لتشديد الخناق عليك؟ وحيث يبدو ان إعادة تركيب الخرائط لا يمكنه هذه المرة تجاهل المسألة الفلسطينية، ولا تعطى الدول كما الأفراد العاديين الفرصة نفسها مرتين، وقد أخذتم هذه الفرصة في سايكس بيكو.
واليوم فإن العالم نفسه الذي أعطاكم هذه الفرصة هو الذي بات مقتنعا بأن الوقت حان لإعادة إصلاح الخريطة القديمة، اذا كان هذا العالم غير قادر على احتمال تداعيات هذه الخطيئة الأصلية، التي ارتكبت في نهاية الحرب العالمية الأولى. ها نحن نعود الى نقطة البداية، لقد تحددت ورسمت الخرائط القديمة الحالية بناء على تكييفات لمصالح القوى الاستعمارية الأوروبية، في ذلك الوقت دون الاخذ بعين الاعتبار الحقائق الواقعية.
وإذ اختفت تلك المصالح القديمة فان الحقائق الواقعية هي التي فجرت فيما بعد كل المشكلات الراهنة وصولا الى ظهور القاعدة، وبعد ذلك تنظيم الدولة الإسلامية، وحروب الفلسطينيين وانتفاضاتهم الممتدة على مدى مئة عام دون توقف. واليوم فان تكيفا جديد للمصالح يقوم على توازن قوى متغير وجديد انما هو الذي يملي على صانعي القرار إعادة تشكيل هذه الخارطة. ولكن هذه المرة على قاعدة التوافق مع اللاعبين الإقليميين الرئيسيين، وهم هنا القوم السني الاكثري عبر ممثله التحالف السعودي التركي والقطري. والذي حدث الآن وعبر خطاب الرئيس أبو مازن ان الرجل حدد بأوضح ما يكون وربما بصورة تتجاوز الغموض الفلسطيني التقليدي، بأننا نقف في إطار هذا الاستقطاب الإقليمي مع المحور والتحالف السني السعودي التركي والقطري، وان ترجمة ذلك هو اللحاق بالقطار الذي بدأ بالانطلاق للتو وحجز عربة للملف الفلسطيني أُسوة بالملفات الأُخرى.
هل وضح اذن ان الرجل استطاع إقناعنا نحن الفلسطينيين أولا واعدائنا ثانية، بأنه وبالرغم من كل ذلك وما يبدو عليه الوضع من انسداد، حيث عدونا لا زال يعيش الوهم من انه ونحن نملك خياراَ؟ وان هذا الخيار ليس سوى مواصلة هذا الطرق على الازميل، كما القدرة على استثمار توازن قوى موتي لمصلحة الفلسطينيين من اجل الوصول أخيرا الى إحكام الطوق والحصار على الاحتلال، وسحب البساط من تحت أقدام هذا الاحتلال. والذي يحدث الآن او لعله المتغير الأكبر، ان الشعب الفلسطيني اعلن بوضوح انه مستعد لدفع الثمن، ثمن هذا الاستحقاق المتمثل بطرد الاحتلال، وقد استجاب بذلك لدعوة المستوطنين الإرهابيين من جماعة تدفيع الثمن. ولكن أين هم أولئك الآن وقد قرر الفلسطينيون دفع هذا الثمن؟ هذه استراتيجية فلسطينية متدرجة ومتدحرجة يمارسها قائد يتحلى بالفطنة والحكمة، ولكن أيضا بالإرادة والشجاعة.
استراتيجية قد تكون هادئة او بطيئة اقرب الى سير السلحفاة منها الى قفز الارنب، لكنها تسير قدماً بثبات وصلابة جدار السلحفاة. وهذه استراتيجيته وهو الذي اختطها وبدأها، فلنساعده فقط على إكمالها، اذا كان أخيراً هو قد وصل الى المزاوجة بين الانتفاضة في الميدان والسياسة، دون ان يضطر الى ارتداء ثياب الكاكي والتمنطق بمسدس عرفات وحيث جميع الأمور تتعادل في نهاية الأيام وتتشابه الأقوال: "نحن حراس هذه الأرض". "وهم في رباط الى يوم الدين".