التاريخ لا يكفي

201958134341122636929198211223735-1565767256.jpg
حجم الخط

بقلم غسان زقطان

 

 

يحب محللو الفصائل والمحيطون بهم وصف "الانتفاضة" القادمة، التي يبصرون إشاراتها ويسهبون في تحديد مواعيدها ووصف علاماتها، يكثر هذا الحديث عادة بعد كل عملية مقاومة وفي عزاءات الشهداء وعلى شاشات الفضائيات كتعليق على "بث مباشر" تتنقل كاميراته بين اقتحامات جنود الاحتلال لأحياء آهلة وأروقة المشافي، حيث يصل الجرحى والشهداء ويتجمع الأهالي تحت أضواء سيارات الإسعاف يحدقون في العربات التي تهبط منها لتصل إلى أيدي المسعفين ورعايتهم، وحمالات المصابين وهي تختفي في عمق أقسام الطوارئ.

بينما كتعليق على المشهد، ينطلق ماراثون المباركات من الفصائل بأحجامها وأدوارها وبراعة الناطقين باسمها.
ثمة "انتفاضة" ستحدث، المفردة بشموليتها ودلالاتها القادمة من مرجعيات الفصيل وذكرياته عن نفسه، مرجعيات ساكنة مكتفية بنفسها تفتقر لقراءة الواقع وتفتقر للإبداع والمخيلة بشكل مؤلم، لكنها تمنح رسائل "المباركة" المتدفقة تلك الإشارات التي تعيد التذكير بدور الفصيل، وحقوقه في الإشراف على المشهد ورعايته، وتوزيع شهاداته على أولئك الذين يواصلون مقاومتهم.
"المباركة" تمنح مطلقها حقوقا غامضة وحمّالة أوجه، من التلميح لصلة ما بـ"الحادث" إلى التذكير بوجود المبارك، لكنها تحمل شبهة الاستيلاء على جزء من التعاطف الشعبي الذي يحيط عادة بالمقاومين.
رغم أن معظم عمليات المقاومة في الهبة الأخيرة لا تحمل بصمات الفصائل، ولا تلوح بالرايات الفصائلية، لكنها تنطلق من النواة المقاومة نفسها وبرعاية الحاضنة الشعبية نفسها، وهو ما لم يتأمله المباركون.
ما لم تستوعبه مخيلة المباركين وهم يسترخون على رفوف "الانقسام"، أو ما لا ترغب في قراءته وهي تنظر إلى الهبة الأخيرة وتضحياتها ورموزها الشابة الجديدة، وأدواتها هو الوعي العميق بوطنية المقاومة، ومحاولة استعادة قيم الوحدة وثقافتها في مواجهة فاشية الاحتلال على الأرض، بعيدا عن جلسات "الحوار الوطني" المضجرة، وجولات "المصالحة"، المضجرة أيضا، والعبث السياسي و"فهلوة" أشخاص يتعلقون بحواف متهالكة. هي "مقاومة" ستزداد قسوة في مواجهة "الانقسام" وسياسة إدارته وأطرافه، "هبة" تمردت على ذلك كله، وهي تعي أن "الانقسام" هو ما أوصل الوضع إلى ما هو عليه من توحش استيطاني وحرية حركة الاحتلال، وتعي مساهمته في تراجع القضية الفلسطينية الوطنية من جدول أعمال العالم.
والأهم أن الانقسام يجعل من مهمة هذه الهبة وتطورها وتراكم منجزها أمرا بالغ الصعوبة.
ليس الأمر تقليلا من شأن تاريخ المقاومة الفلسطينية وتضحياتها، أو حقوقها في التعددية واقتراح البرامج على البرنامج الوطني الأوسع، برنامج التحرير، لا أحد يملك قوة أو حق مصادرة التاريخ الوطني. ولكن التاريخ لا يكفي هنا، انه هناك بمجده وأبطاله ورموزه وطاقة الإلهام ودروسه.
لعل قراءة الواقع والانخراط في حاجات الناس ومطالبهم وهمومهم، هي الدرس الأكثر بلاغة لفهم انطلاقة الثورة الفلسطينية في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وهي القاعدة التي وفرت البيئة الوطنية التي على أرضها تشكلت منجزات الثورة.
هذه القراءة هي ما تفتقر إليه النخب السياسية، الآن، ليس نقل الوعي من التاريخ إلى الراهن كما يحدث، الآن، ولكن تحقيق قراءة جديدة للواقع الجديد.
مرة أخرى، التاريخ لا يكفي.