بعد مرور 29 عاماً على التوقيع على اتفاق "أوسلو" تبدو الحالة الفلسطينية أبعد ما تكون عن روح الاتفاق والآمال التي عقدت عليه. فالقيادة الفلسطينية كانت تبني على هذا الاتفاق توقعات أكثر بكثير من قدرته على إنتاجها. خصوصاً أن الذين فاوضوا واتفقوا كانوا بعدين كثيراً عن فهم العقلية الإسرائيلية واحتمالات التغير داخل المجتمع الإسرائيلي. بل أيضاً كانت هناك سذاجة فلسطينية وتسرع مبني على أن الاتفاق انتقالي وأنه بعد خمس سنوات سنحصل على دولة فلسطينية ولهذا لم يتم التدقيق في الكثير من التفاصيل الجوهرية والتي أصبحت قاتلة فيما بعد خلال عملية تطبيق الاتفاق أو الأجزاء التي طبقت منه. وخاصة عدم ورود بند وقف الاستيطان بشكل كامل في الأراضي الفلسطينية المحتلة وعدم تهويد القدس، والإفراج عن الأسرى وتقسيم المناطق إلى (أ) و(ب) و(ج). وجوازات السفر "وثائق السفر" الغريبة والناقصة القيمة.
كل واحدة من الثغرات التي سبقت يمكنها أن تنسف العملية برمتها، فالأمور التي تم الاستعجال بها و"سلقها" لم تتغير وحسن النية المتوقع لم يكن هو سيد الموقف. بل تمسكت إسرائيل بالجزء الذي يخدمها من النصوص، وأفرغت الاتفاق من مضمونه. فالخلل الذي واكب تقسيم المناطق الفلسطينية منع سيطرة السلطة الفعلية على الأرض. ولو دققنا في حقيقة أن مناطق سيطرة السلطة ليست متواصلة إقليمياً لكنا أدركنا بأن ما تمت حياكته من بنود يهدف إلى ضمان بقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية لأطول فترة ممكنة على الأراضي الفلسطينية، دون قدرة فعلية للسلطة الوطنية للتحرك حتى بين مناطق تحت سيطرتها الفعلية. ومنحت إسرائيل سيطرة على حوالي ثلثي الضفة الغربية بما لا يتيح نشوء وتطور الكيان الوطني الفلسطيني المستقل.
الأخطاء القاتلة لا تتعلق فقط بصياغة البنود والنواقص الجوهرية فيها وعدم التدقيق في مضامينها، بل وحتى في عدم الالتزام بنصوص الاتفاق، فإسرائيل لم تنفذ النبضة الثالثة من الاتفاق التي تعني الانسحاب من معظم مناطق (ج) وتحويل غالبية المناطق الفلسطينية إلى مناطق "سيادية" فلسطينية. كما أن المفاوضات التي من المفروض أن تنتهي باتفاق على التسوية الدائمة بحلول أيار العام 1999، في الواقع لم تبدأ في هذا التاريخ وبدأت بعد أكثر من عام على مروره في قمة "كامب ديفيد" الفاشلة. وكان من المفروض أن يوقف الفلسطينيون التزامهم ببنود الاتفاق بمجرد أن تنكرت إسرائيل لمبدأ الانسحاب من مناطق (ج). وأنها لم تلتزم بالوصول إلى حل دائم يقود إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة. وعملياً نحن ساعدنا إسرائيل وسوغنا لها التهرب من تنفيذ الاتفاق وتحويل المؤقت إلى وضع دائم والتراجع حتى عن الوضع الذي بدأ تطبيقه في السنوات الأولى حتى العام 2000.
ولو أن السلطة منذ البداية رهنت قيامها بتنفيذ ما هو مطلوب منها بقيام إسرائيل بتطبيق كافة التزاماتها، لكانت الأمور، اليوم، مختلفة تماماً عن الحالة الفظيعة التي نعيشها. وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك أخطاء فلسطينية مهمة خلال التطبيق وخاصة بعد اندلاع الانتفاضة الثانية في خريف العام 2000. فاستخدام السلاح وخاصة العمليات التفجيرية ضد المدنيين الإسرائيليين ساهمت في تدمير السلطة وفي تغيير جوهري في الواقع الحزبي والسياسي الإسرائيلي كما هو في الواقع الفلسطيني، بما في ذلك فوز اليمين الإسرائيلي وبناء جدار الفصل العنصري ولاحقاً انقلاب "حماس" على السلطة وسيطرتها بالقوة على قطاع غزة وخلق واقع الانقسام المدمر الذي نعيش.
الآن، نحن لسنا بصدد تقييم اتفاق "أوسلو"، مع أن التذكير بما حصل مسألة مطلوبة، ولكن ما نحن نواجه، الآن، يتطلب خطة عمل وطنية شاملة تتجاوز مجرد ردود أفعال غاضبة أو انفعالية. فمن السهل مثلاً الحديث عن إلغاء الاتفاق أو وقف الالتزام بتنفيذ البنود المتعلقة بالسلطة الفلسطينية مثل التنسيق الأمني وغيرها. ولكن هنا ضرورة لوضع البدائل الوطنية المنطقية، وعندما نقول وطنية نحن نعني على مستوى الوطن وتبعاً للمصلحة الوطنية ولبرنامج الإجماع الوطني الفلسطيني الذي يقوم على حق تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة كاملة السيادة على الأراضي المحتلة منذ العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين على أساس قرارات الشرعية الدولية. فهل نحن قادرون على خلق ذلك بشكل موحد يشمل الجميع في الضفة وغزة؟
الذهاب للأمم المتحدة والمطالبة بالاعتراف بدولة فلسطين كاملة العضوية مسألة ضرورية ومطلب شرعي وحق من المفروض أن تكفله الشرعية الدولية، ولكن ماذا مع واقع الانقسام الذي نعيش والذي يتكرس باتجاه فصل تام بين الضفة وغزة، حتى موضوع تقليص فاتورة الرواتب في السلطة والذي يتم الحديث عنه في إطار تطبيق قانون تقاعد قسري للموظفين الذين ليسوا على رأس عملهم سيقود دون شك لصرف موظفي قطاع غزة من المدنيين والعسكريين الذي جلسوا في بيوتهم تلبية لقرارات السلطة. وهذا سيؤدي إلى تقليص دور السلطة في غزة وتعزيز فكرة الفصل، فعن أي دولة نتحدث ونحن لا نملك سلطة واحدة ونظاما سياسيا واحدا؟. فحتى لو قررت القيادة الإعلان عن تنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي سيتعين علينا الإجابة عن مسألة الوحدة الوطنية التي بدونها لن نستطيع إقامة دولة حتى لو تم الاعتراف بها رسمياً في الأمم المتحدة، فالدولة يجب أن تكرس أولاً على الأرض وتشمل الضفة وقطاع غزة حتى يصبح لأي قرار تتخذه الأمم المتحدة فاعلية وجدوى.