بعد جهد جهيد عقد مؤتمر مدريد في عام 1991 المتعثر بعد الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، ومفاوضات أفشلها الفريق الإسرائيلي الصهيوني بقيادة شامير وبيرس، والمحادثات المستعصية النائمة في الكوريدور بقيادة المرحوم حيدر عبد الشافي، جرت محادثات سرية إلتفافية في آخر أطراف الأرض، في أوسلو البعيدة عن العيون، بين وفد من منظمة التحرير الفلسطينية وبين وفد حكومي إسرائيلي، وأفرزت ما سمي بإعلان المبادىء ووقع في واشنطن بتاريخ 13/9/1993. وما لبث أن أضيف إلى " غزة وأريحا أولا " إتفاقيات القاهرة وواشنطن وباريس الإقتصادية (أوسلو ).
وفي ظل الصدمة من أوسلو والصحوة عليها، توالت قضية التبريرات المالية والإغتراب العربي وتهجير الفلسطينيين للقبول بأوسلو، وللأمانة العلمية فقد ابتلع كثير من الفلسطينيين هذا الأمر وقبلوا به على مضض أو بسذاجة أو بعاطفية أو بجهل، لعلة واحدة تمثلت في أن يشكل خلاصا لهم في مسعاهم للخلاص من الإحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولتهم الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
وبموجب أوسلو المليء بالثقوب والثغرات، اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود والأمن، ونبذت العنف والإرهاب في تحقيق أهدافها وقصرها على المفاوضات، وتعهدت منظمة التحرير الفلسطينية بتعديل ميثاق منظمة التحرير ليتماشى مع هذا التغيير. وبالمقابل اعترف الجانب الإسرائيلي فقط بمنظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني ولم يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني ولا باتفاقية جنيف الرابعة وتطبيقها على الأرض المحتلة، وتعهد ببدء المفاوضات معها ، على مواضيع مؤجلة مثل اللاجئين والقدس والمستوطنات والحدود والترتيبات الأمنية في المرحلة الإنتقالية.
إنطلاقا من أوسلو قسمت الضفة الغربية إلى ثلاثة أقسام، ألف وباء وجيم ويا ليتنا كنا قد قرأنا اتفاقية كامب ديفيد بين الإسرائيليين والمصريين لنفهم ونتعلم، حيث السيطرة الأمنية والمدنية في مناطق " ألف " حصرا للسلطة الوطنية الفلسطينية ( السلطة )، وفي منطقة " باء " تنحصر سلطة السلطة في الأمور المدنية بينما الأمنية حكر لإسرائيل، وفي منطقة " جيم " فإن السيطرة المدنية والأمنية هي من اختصاص الجانب الإسرائيلي. واستثني الإسرائيليون والمستوطنون والشركات الإسرائيلية من اختصاص السلطة، وأتبع ذلك عمليا إخراج المقدسيين حملة الهوية الزرقاء من اختصاص السلطة، رغم عدم وجود نص في أوسلو يقضي بذلك.
ومهم أن نقرر أن أوسلو أفرزت سلطة تضم مجلسا تشريعيا وسلطة حكومية وقوة أمن وليس جيشا وتنسيقا أمنيا وقضاء نظاميا لفترة إنتقالية مدتها خمس سنوات لإجراء محادثات حول المواضيع المؤجلة، وتنتهي في عام 1999، إلا أن هذا التاريخ لم ينتج أي شيء. وبقيت السلطة وبقي الإحتلال طيلة عقدين ونصف قائمين بشكل ضبابي وبدون مركز قانوني واضح.
بل إن الجيش الإسرائيلي خرق بشكل واضح أوسلو ودخل لمنطقة " ألف " وشن حربا على أجهزة السلطة في عام 2002، واحتجز المال الفلسطيني وسطا على المياه الفلسطينية وعلى الهواء الفلسطيني وأثيره والنفط الفلسطيني وما زال، وأقام المستوطنات والمستعمرات حتى في مدينة القدس، وسلب الأراضي الفلسطينية، ونقل الأسرى خارج نطاق الضفة الغربية، وتحكم في اقتصاد الضفة الغربية وقطاع غزة. وما زالت ما تسمى بالإدارة المدنية تعمل بكل طاقتها في كل المجالات.
ولم يعد من أوسلو أمرا لم يخرق أو لم يعطل بحجج وذرائع مختلفة وبالمقابل غدونا دولة ليست عضوا في الأمم المتحدة.
بعد كل هذا، وبعد مرور ما يقارب ثلاثة عقود زمنية على توقيع أوسلو بكل مركباتها، وبعد فشل المفاوض الفلسطيني في تحقيق نتائج على الأرض وملموسة، والصراع القائم بين الأجنحة المتكسرة في منظمة التحرير الفلسطينية، وخلو الساحة من اية نقاشات علمية مثمرة وإيجابية حول أوسلو سلبا وإيجابا، يجب التساؤل بعد هذه المعاناة الطويلة: ألم يحن الوقت لتقييم هذه التجربة الأليمة ومدى فائدتها وانعكاسها على الشعب الفلسطيني، بل وضررها عليه. ألم يحن الوقت لمراجعة المبررات التي رددت لقبول أوسلو. ألم يحن الوقت لمراجعة بعض نصوص أوسلو أو كل نصوصها. ألم يحن الوقت لتمزيق أوسلو والعودة للمربع الأول من جديد. ألم يحن الوقت لإيجاد بديل عن هذا المخلوق المشوه.
وهل استطاع الفلسطينيون ممارسة سيادتهم على ثراهم بموجب أوسلو. وهل يشكل أوسلو خطوة متقدمة أو إيجابية نحو تحقيق الحقوق الفلسطينية، وهل نصدق مقولة الدولة العتيدة، أم نؤمن بالحكم الذاتي الناقص.ألم يقسم أوسلو الشعب الفلسطيني إلى ضفة وغزة وداخل وخارج. ألم تخبو وتراجعت منظمة التحرير في ظل بريق ولمعان وحضور السلطة. وإلامَ أفضى كل هذا الحديث؟!
كل فاحص أو ناظر للوضع الفلسطيني بعد ثلاثة عقود على أوسلو، يرى تراجعا في القضية الفلسطينية سواء على الصعيد العالمي أو الإقليمي أو العربي أو المحلي الثنائي، ويرى مزيدا من المستعمرات الإسرائيلية التي تقضم الأرض الفلسطينية، ويرى أفولا لحل الدولتين الذي راهن عليه أطراف أوسلو، ويرى مزيدا من السيطرة الإسرائيلية على موضوع القدس ومؤسساتها وعربها، ويرى تراجعا دوليا ملموسا في إطار المساعدات الدولية، ويرى فسادا مستشريا جعلت منظمة الفساد العالمية ترتب فلسطين في موقع متقدم، ويرى قضاء متراخيا غير فعال تشوبه النزاعات والخلافات، ويرى ديونا دولية وداخلية وحيتانا تأكل الأخضر واليابس بفضل أوسلو وخير أوسلو وبركاته. وعليه يثور السؤال ما العمل، وكيف نتصرف إزاء هذا المرض الخطير الذي ألمّ بنا؟
البعض يردد أن أوسلو ساهم في عودة عشرات الآلاف من فلسطينيي الخارج لوطنهم فلسطين، وشكلوا لبنة في البناء الديموغرافي الفلسطيني. يمكن القول أن هذا الأمر صحيح تماما لكنه يبدو ثمينا جدا بالمقابل الذي دفعه الفلسطينيون من تنسيق أمني والسيطرة على أراض وقتل وتشريد وأسرى وسجون ونهب خيرات.
أما قضية العمال الفلسطينيين فهي باقية بأوسلو أو بدون أوسلو، فلا غنى للإسرائيليين عن العامل الفلسطيني مهما روجت وروجت أجهزة الإعلام الإسرائيلية لمقولة استقدام عمال صينيين أو رومانيين أو من أية جهة. فكل هؤلاء سيشكلون خطرا ماليا وأخلاقيا واجتماعيا وجنائيا على المجتمع الإسرائيلي وسيحملون معهم كل عاداتهم وتقاليدهم له، بينما العامل الفلسطيني سيعود لبيته آخر النهار، وسيعود ما يصرفه للخزينة الإسرائيلية. بل بدون أوسلو يمكن القول أن قضية العمال ستتقدم قانونيا أكثر.
ويجب عدم التخوف من أن الإحتلال الإسرائيلي من مقولة أنه غير ملزم بالصحة الفلسطينية والتربية والتعليم الفلسطينية والقضاء الفلسطيني وغيرها من خدمات الإدارة والمحاكم. فقانون الإحتلال الحربي يلزم القوات المحتلة بتقديم تلك الخدمات للشعب الواقع تحت الإحتلال بل السمو فيها، ولا يملك المحتل الفكاك من هذه الإلتزامات. أما قوات الأمن الفلسطينية فهي الوحيدة التي لا تستطيع القوات المحتلة أن ترث عبئها قانونيا، وبالتالي عليها أن تجد عملا لها.
ما دام الرئيس ذاهب إلى مقر الأمم المتحدة في نيو يورك ليلقي خطابه السنوي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وما دامت الأمم المتحدة قد شهدت تسجيل إتفاقيات أوسلو جميعها في سجلها، وما دامت الأمم المتحدة قد أصدرت الكثير من القرارات المؤيدة للقضية الفلسطينية، وما دامت أوسلو تناقض هذه القرارات جملة وتفصيلا، فلم لا يبادر الرئيس بطرح مبادرة جريئة خاصة بأوسلو، وتنهي هذا الخطر الداهم الجاثم على صدورنا، أم أننا نطلب الكثير ونكتفي بالقليل؟!
قطعا، الموضوع ( أوسلو ) سياسي قانوني اقتصادي إجتماعي دولي إقليمي، ولسنا من السذاجة أن نقصره على عنصر واحد، ولكن شعبا ومصالحه وحقوقه وأمواله وإنسانيته ليست على المحك بسبب أوسلو بل غدا أوسلو يشكل تهديدا صارخا لها جميعا، ودعونا من المقولات السطحية والأولية بعدم وجود إمكانية للتغيير وأن ليس بالإمكان أبدع مما كان، فدائما التقدم والتحسن وارد مهما كان الليل طويلا، وكما تزرع تحصد.