لم يكن مفاجئاً حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على المشاركة في قمة رؤساء بلدان منظمة شنغهاي للتعاون، وسط تصاعد التوترات بينه وبين الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، التي مكّنت أوكرانيا من الصمود واستعادة بعض أراضيها من القوات الروسية.
بوتين الذي حشد حلفاءه للمشاركة في هذه القمة، بدا مهتماً في التركيز على هذا المحيط الجغرافي الإقليمي لكسر العزلة الدولية التي يفرضها عليه الغرب، وكذلك فتح أسواق جديدة وتبادل المنافع الاقتصادية مع بلدان منظمة شنغهاي وبالأخص الصين.
القمة جاءت في وقت حساس للغاية، وقت تحتاج فيه موسكو بكين والعكس صحيح، وهو وقت تبادل المصالح بمستويات أعلى من السابق، خصوصاً وأن واشنطن تدعم كييف بقوة وتمدها بالمال والسلاح لإضعاف روسيا ومنعها من تحقيق أي انتصار في المربع الأوكراني.
كذلك يحتاج الرئيس الروسي من منصة قمة شنغهاي للتأكيد على أن عالم اليوم لابد أن يتغير ويتحول من أحادي القطبية إلى متعدد الأقطاب، فيه مكان لدول عظمى مثل روسيا والصين، وهذا بالضبط ما أكد عليه الرئيسان الروسي والصيني في لقاء خاص على هامش انعقاد القمة في اليومين الماضيين.
وعلى الرغم من أن الصين لم تدعم الحرب الروسية على أوكرانيا وإنما وقفت على الحياد، إلا أن بوتين ثمّن هذا الموقف انطلاقاً من اهتمامه بتوسيع العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بين البلدين، لأن بكين يمكنها أن تلعب دوراً مهماً على صعيد تخفيف الحصار الغربي المفروض على موسكو.
يدرك الرئيس بوتين أهمية تعزيز الشراكة الاقتصادية بين البلدين، لذلك حرص خلال لقائه نظيره الصيني شي جينبينغ على زيادة حجم التبادل التجاري السنوي إلى أكثر من 200 مليار دولار. ومن المتوقع أن تشهد العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين آفاقاً أرحب في ضوء الآتي:
أولاً: للصين وروسيا مصلحة في كسر شوكة الولايات المتحدة الأميركية التي تحاربهما بالوكالة عبر أطراف ثالثة، كما هو الحال في نموذج أوكرانيا مع روسيا، وتايوان مع الصين.
ثانياً: موسكو ترغب بأقصى سرعة ممكنة في إيجاد أسواق جديدة لتصريف بضاعتها وأيضاً ملء الفراغ الذي تركته الشركات الأوروبية.
في الأشهر القليلة الماضية اعتمدت موسكو على استيراد السيارات الجديدة من الصين، وفي ذات الوقت تحولت شركة «أكسيومي» الصينية للهواتف النقالة إلى الشركة الأكثر مبيعاً لمنتجاتها في روسيا، وفي الجهة الأخرى قبلت بكين تسديد ثمن الغاز الروسي باليوان والروبل.
ثالثاً: الصين مستفيدة من توسيع التعاون الاقتصادي مع روسيا، لكنها مهتمة أيضاً للغرب وسياسة البقاء على الحياد تعني بالنسبة لها «رِجل» في الشرق و»الرجل» الأخرى في الغرب، وهذا يعني ضمان توسيع حضورها الاقتصادي على خريطة العالم.
رابعاً: مثلما تأذت موسكو من دعم واشنطن لأوكرانيا، تتأذى بكين من الدعم الأميركي لتايوان، وترى أن دورها الرئيسي في مجموعة شنغهاي يحمي مصالحها الحيوية، ويضفي نوعاً من القوة في مواجهة الهيمنة الأميركية.
خامساً: بالنسبة للرئيس الصيني شي جينبينغ تعد هذه القمة ضرورية لتمكين نفوذه على الساحتين الداخلية والخارجية، من حيث أنها تحقق له مكاسب سياسية لتعزيز التضامن الدولي مع سياسة الصين الواحدة، ومكاسب اقتصادية بالإضافة إلى إنجازاته التي تؤهله للترشح لفترة رئاسة ثالثة منتصف الشهر المقبل.
قمة شنغهاي التي شهدت بالأمس انضمام إيران رسمياً إلى هذه المجموعة التي تضم تحت مظلتها كلاً من الصين وروسيا والهند وباكستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزستان وكازاخستان، تشكل حوالي 30% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ودولها تمثل أكثر من 44% من سكان العالم.
بوتين لم يغفل استعراض هذه الإحصائيات على هامش القمة، من باب القول للغرب إنه «مسنود» إقليمياً ودولياً وبلده عضو مؤسس في تكتل دولي يوازي قوة وحجم مجموعة الدول الصناعية السبع، وكذلك حلف الشمال الأطلسي «الناتو».
روسيا التي تدير مع الصين هذه المنظمة الدولية -شنغهاي- هي التي وقفت بقوة وراء انضمام طهران إلى المجموعة، وبوتين متحمس جداً لفتح أبواب التعاون السياسي والاقتصادي معها، وكذلك يبدو أنه منفتح على فكرة انضمام دول أخرى لمجموعة شنغهاي.
لابد من ملاحظة أن موسكو تعمل ضد الغرب على كسر العزلة الدولية المفروضة عليها وعلى دول مثل إيران وسورية، ومن غير المستبعد أن يتبلور دور مجموعة شنغهاي في المستقبل المنظور كتكتل قوي مناهض لمجموعة السبع.
نظرة الرئيس الروسي للعالم واقعية من باب أنه لا يمكن هزيمة الولايات المتحدة الأميركية وإخراجها من دائرة الضوء، وإنما هناك فرصة للتنافس على شكل النظام الدولي نحو الوصول إلى مقعد فيه على مسافة قريبة من واشنطن يحقق لروسيا تقاسم «الكعكة» الدولية والوصول إلى المنافع المرجوة. والصين كذلك ولو أنها «تطبخ» سياستها على «نار هادئة» وتترجم المثل الذي يقول «يتمسكن حتى يتمكن».