محبوس على ذمة مالية

لقطة الشاشة 2022-09-18 101529.png
حجم الخط

بقلم خالد عبد الغني الفرا

 

 

 عبر ازمنة خلت صنفت غزة على انها رأس حربة المشروع الوطني وكانت تعرض نفسها في الخطوط الامامية للدفاع عن الوطن، فلم يؤثر في همتها كبر التضحيات ولم يدفعها تراكم الخسائر الى التخلي عن نضالاتها، فلقد كانت متبرعة بمستقبلها ليكون هناك وطن نابض بالحياة غير منكسر، لذا وضعت المدينة تحت مجهر معامل أجهزة الاستخبارات، للوصول الى أفضل طريقة لتحييدها وفصلها عن عمقها الوطني، في تبادل أدوار للداخل والخارج كل طرف يؤدي مهمته ويسلم طرف الخيط للأخر لإكمال الحلقة،
كانت هناك مدينة اسمها غزة زاخرة بعنفوان شبابها تعمدوا اغلاق كافة المنافذ في وجهه و دفعوه للتشرد في أصقاع العالم كي ينسي وطنه و يرسل رسائل الى اقرانه بان هناك حياة اخري غير التي نعرفها فبدأت قوافل الشباب المهاجر المندفع جراء انعدام الأفق , لتصاب الشوارع و المناطق و الاحياء بالخراب بعد ان تركها خيرة شبابها , و مع اشتداد الحصار الإسرائيلي المتزامن مع عقوبات السلطة التي تمثلت في قطع الرواتب و إيقاف الترقيات و فرض أنماط غريبة من الخصومات على راتب بالأساس لا يكفي بعد ان تورط معظم الموظفين في الاستدانة من البنوك و المدين دوار الذي يلتهم بقايا راتب بلا رحمه ,,
ليقف الموظف في طابور امام ماكينة الصراف الالي املا في الحصول على ما تبقي له من راتب يعينه على اطعام اسرته , فاذا به يجد نفسه مدين للبنك و ان راتبه لم يحتمل حجم الأقساط التي انهالت على رقم حسابه , اغراق تام لموظف امتثل لقرار سلطته فتم معاقبته و حرمانه ان يكمل حياته مستقرا , هنا بدأت شركات التقسيط تظهر للعلن و تعرض منتجاتها باحتيال بارع و اغراء نظرا لسهولة الحصول على المنتج , فلم يجد الغارق في بيت جائع و أصحاب محلات ترفض التعامل معه من الوقوع في تلك الورطة , فلقد اشتري جهاز كهربائي او تليفون محمول بأسعار مرتفعة و إعادة بيعه بسعر منخفض كي يسكت بطون جائعة تحاصره بطلبات لا ترحم ,,
هنا بدأت ارهاصات ازمة جديدة تطل برأسها و معزوفة سريالية يعيشها سكان قطاع غزة في ظل افتقار سلطة حماس الى شجاعة مواجهة مثل هذه التحديات الاقتصادية التي كانت تطل برأسها من حين لأخر كإنذار مبكر لضرورة إيجاد حلول استباقية لها , الا ان شجاعة المواجهة انعدمت و كأن هناك رغبة الى ترحيلها الى زمن اخر , لتبدأ اعداد المتعثرين بالتزايد و النيابة العامة تستقبل الشكاوي والبلاغات عن كمبيالات استحقت و لم تدفع و شيكات مرجعة لتفتح المحاكم قاعاتها بدل المجالس العشائرية التي كانت تعرف كيف تجد مخارج لمثل هذه الازمات غير اصدار أوامر الحبس ,, هنا بدأت الشرطة في تنفيذ أوامر الاعتقال بحق من صدر بحقهم أوامر الحبس , و الامر لم يعد حكرا على موظف السلطة بل انزلقت اقدام موظفي حماس هم الاخرون , ليزداد المشهد تعقيدا بعد استفحال المبالغ المستحقة و باتت تفوق قدرة المدينين على الإيفاء بها ,فتجلت النهاية الى حبس المتهم الى ذمة مبلغ مالي و تحول المواطن البسيط و المحترم الى صاحب سوابق و ينظر اليه بانه نصاب و لا غرابة ان تجد سجان الامس مسجونا في يوم لاحق , انها دائرة مرعبة من التعثر المالي ,
هذه الدائرة من الاستدانة لم تجد من يوقف زحفها ويعمل على حلها من جذورها، حتى المحاولات الخجولة التي قادتها بعض الشخصيات توقفت حركتها ولم نعد نسمع عنها والغارمون أضحوا نزلاء في غرف السجون بعيدين عن حياتهم بلا ذنب سوي انهم امنوا بان لهم وطن يمكنه ان ينتفض لأجلهم،
هذا التعثر ليس طبيعيا بل خطة مدروسة لإيقاع الناس واشغالها في مشاكلها الشخصية كي لا تتمرد وتعلن العصيان وتطالب بحقوقها القانونية التي تم اختطافها، ولك ان تتخيل ان الغارم يحاكم لقضاء فترة تسعون يوما في العام ويترك باقي السنة انها شريعة قانونية مستمدة من غابات المصالح والاهواء، فلا حكومة غزة قادرة على اطعام هذا الكم من المساجين ولا قادرة على توفير مساحات وغرف لهم، انها مأساة حقيقية ارست بظلالها على وطن بالكمه،
هذه التصرفات الهوجاء جعلت إسرائيل تلبس ثياب العفة و تتصرف وفق ما يظهر العجز الفلسطيني في إدارة شؤونه العامة , و كل الموجودين على الساحة عبارة عن رسوم متحركة يمكنها ان تثير اعجابك خلال العرض التليفزيوني الا انها خداع بصري ابطاله من ورق نسجها خيال من قام برسمها , انها فضيحة علنية تحظي بشهود كثر , نحن لسنا سوي رسوم تتحرك وفق ما يخطط له الرسام , هنا التقفت إسرائيل هذه اللقطة و فتحت مناطقها لاستقبال العمالة الفلسطينية دون حقوق في سقطة أخلاقية , حيث يذهب العامل الفلسطيني للعمل و معه تصريح زيارة و ليس تصريح عمل يلزم المشغل حفظ حقوقه و التأمين عليه صحيا و من المخاطر , انها لا تريد الاعتراف بانها تنتهك حقوق العمال بل تريد استغلال مكون بشري لا تتوفر له حماية ,
انه فشل كبير وخيبة فرضت شكلها على الواقع الغزاوي، دفعت البيوت الامنة والضاحكة لخسارة حيويتها وتحويلها الى مراكز لإيواء العاطلين، والشباب المتحمس انهارت معنوياته وكره وطنه، والعامل يذهب للعمل في إسرائيل بلا عنوان حقيقي، ليبقي السؤال برسم الإجابة، هل يمكن ان يتولد امل في ظل هذا العبث الحاصل، ام اننا خسرنا كل شيء؟؟؟